23 ديسمبر، 2024 9:47 ص

نازحو الأنبار إذ يمنعون من دخول مدينة هارون الرشيد!!

نازحو الأنبار إذ يمنعون من دخول مدينة هارون الرشيد!!

من مفارقات العراق الأمريكي – الإيراني أن يقف نازحو الأنبار على أعتاب بغداد ينتظرون كفيلا ليسمح لهم بالدخول إلى مدينة أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد، وكأنهم أصبحوا أغرابا عنها، في حين أصبح أبناء نازحي الستينات ممن جلبهم عبد الكريم قاسم من أهوار الجنوب أسيادا لبغداد وممثلين (للتبغدد)، مفارقات تعطي رسائل واضحة عن طبيعة النظام الحاكم في بغداد وعدوانيته وثأريته وديماغوجيته.

 

ليس عيبا أن نذكر أن بغداد استقبلت عبر تاريخها كثيرا من موجات النزوح من الجنوب والشمال، وفتحت لهؤلاء الوافدين أبوابها ليصبحوا جزءا من نسيجها الاجتماعي والثقافي ومن ثم السياسي، فهذا من لوازم المواطنة التي قامت على أساسها الدولة العراقية الحديثة، لكن من العار أن تطمس هوية مدينة بنيت قبل حوالي ثلاثة عشر قرنا على أيدي (نخب) مصابة بالفصام النفسي ومسكونة بكل أنواع الأحقاد المرضية حتى على تاريخ المدينة التي تسيدوها رغما عن أنوف أهلها.

 

لم تحرك مشاهد الأسر الأنبارية وهي تقف عطشى في حر الشمس اللاهب مروءة من يتباكون على عطش الحسين بن علي رضي الله عنه، ولم تنتفض غيرة أهل الهوسات ومقاطع الشعر الشعبي لتسمح لنساء الرمادي وأطفالها للدخول إلى عاصمة بلادهم التي جنبوها زحف داعش منذ شهور.

 

وبمزيج من مشاعر التشفي والغيط يتحدث قادة شيعة العراق و(مثقفيهم) عن النازحين، عن أنهم مشاريع دواعش سيدخلون إلى بغداد (الآمنة) ليعيثوا فيها فسادا، أو ليعبثوا بتركيبتها الديموغرافية التي تعبت إيران وأحزابها في خلخلتها عبر فرق الموت ورسائل التهديد التي تصل إلى أهلها الاصليين لتدفعهم للرحيل عنها إلى مناطق أخرى وربما إلى منافي الأرض البعيدة.

 

ولأن العقل الطائفي الشيعي مهجوس بالمؤامرات التي تبدأ في نظرهم منذ أيام السقيفة؛ فإن هؤلاء الفارين من الموت ليسوا أكثر من (حصان طروادة) سيمهد لداعش أن تلج إلى داخل بغداد، يتساءل الكثيرون من هؤلاء المرضى لماذا لا يقاتل هؤلاء الوافدين داعش، ولماذا يريدون منا أن نرسل أبناءنا إلى المحرقة بدلا عنهم؟ ويتجاهلون أن عشائر الرمادي التي طردت القاعدة قبل ذلك، مضى عليها حوالي عام ونصف وهي تقاتل مسلحي داعش بدون أي دعم حكومي يذكر بحجة سخيفة وواهية وهي أن حكومة بغداد تخاف من وقوع السلاح بأيدي الإرهابيين، وتركوا ينزفون طيلة كل تلك الفترة، ولما أوشكت داعش أن تصل إلى مركز الرمادي وخرجت العوائل والنساء والاطفال يبتغون ملاذا آمنا تفجر القيح الذي تكنه القلوب على الألسنة: لماذا لم تقاتلوا داعش؟ وكأنهم كانوا يلهون طيلة تلك الشهور العصيبة.

 

إن شرخا عميقا لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه قد تم بين السنة والشيعة، واتسع الشق أكثر بعدما كادت سنوات الإستقرار النسبي بين عامي 2008-2010 أن تردمه، لكن سياسات المالكي المنتخب شيعيا دفعت بالبلاد وبالسلم الأهلي نحو هاوية سحيقة.

 

لا يفيد البكاء على اللبن المسكوب اليوم أو النياحة على أطلال الماضي، فعشرات آلاف الأنباريين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في انتظار الحصول على مأوى آمن لهم ولعوائلهم، بعد أن خذلتهم قيادات الجيش والشرطة التي فرت كما فعلت سابقا من الموصل وغيرها تاركة الأسلحة في الشوارع. 

 

وبقدر ما كشفت هذه الأزمة من مواقف بالغة العار والخسة فقد أظهرت معادن نفيسة أعادت إلى الأذهان سيرة العراقيين الأولى في الطيبة والتراحم، أبطالها مواطنون بسطاء من السنة والشيعة فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم لإخوانهم، وقاسموهم لقمة عيشهم المتواضعة، كما أنها أظهرت وقفات نبيلة للكثير من الهيئات والشخصيات العامة، كالمجمع الفقهي لكبار علماء العراق والذي كان حاضرا مع النازحين منذ أول يوم يداوي جروحهم ويمسح دموعهم، وكذا موقف ديوان الوقف السني الذي فتح مساجد بغداد أمام هؤلاء المنكوبين وقدم لهم ما يمكن تقديمه من إغاثة عاجلة ومأوى يقيهم النوم على الأرصفة أو الوقوع تحت رحمة بعض الطائفيين في الأجهزة الأمنية الذين يحرصون على تصيدهم وإلصاق التهم بهم، بالإضافة إلى جهود بعض النواب وأعضاء مجلس المحافظة الذين حرصوا على التواجد معهم ومتابعة احتياجاتهم.

 

سينجلي غبار الأزمة وسيعود النازحون إلى ديارهم وبيوتهم، وسيبقى العار يلاحق كل طائفي مهووس رفض دخولهم وتعامل مع مأساتهم بكل خسة ونذالة، كما سيظل العار وصمة في جبين بعض أصحاب الأملاك الذين رفعوا أسعار الإيجارات في وجوههم، وهم الذين كانوا يلوذون بأهل الانبار وشيمتهم كلما دهى بغداد خطب أو غشيتها مصيبة.

 

ولعل الدرس الأكبر من كل ما جرى هو أن من لا يجمعهم مشروع أو توحدهم قضية سيظلون نهبا لكل طامع ومغامر، وأن على أهل السنة أن يقرروا بعد تغريبتهم الطويلة هذه أن يلوذوا بخيمة تجمع شتاتهم وتوحد مواقفهم وتحفظ حقوقهم وكرامتهم، بدل أن يظلوا سلعة في سوق السياسة يتلاعب بها أصحاب الشعارات والمزايدات الرخيصة، ممن جعلوا الصراخ وتبادل الشتائم والإتهامات في الفضائيات وسيلة لكسب العيش، دون أن يقدموا لجمهورهم أي حلول تقيهم النفي والإستئصال، أو ترمي لهم بطوق نجاة في زحمة مشاريع الإبادة التي تتخطفهم ذات اليمين والشمال.