يدخل الكيان التابع لـ”حزب الله” في جنوب لبنان في هذا التصنيف، بعد أن حول مفهوم “شرعية المقاومة” إلى قاعدة قوية ومستقرة لبنائه السياسي المنفصل بالكامل من حيث الأداء والاستراتيجيات عن الدولة اللبنانية، التي نفذ إلى مراكز القرار الفعالة فيها. يتعلق الأمر هنا بنمط من الجغرافية السياسية مختلف عن الكيان الكردي العراقي، باعتباره وإنْ كان له مجاله الإقليمي الخاص (جنوب لبنان)، إلا أن له مجاله الحيوي الممتد الذي يتجاوز الإطار اللبناني إلى المنطقة بكاملها من خلال خطي الاحتكاك السُني- الشيعي والعربي – الإيراني.
ينضاف إلى هذين الكيانين “جمهورية أرض الصومال”، التي أعلنت في بداية التسعينيات في القسم الشمالي من دولة الصومال المفككة. المفارقة المثيرة هو أن هذا الكيان، الذي لم ينل الاعتراف الدولي نجح في بناء دولة مستقرة وناجحة بالمقارنة مع البلد الأم الذي لم يستطع الخروج من محنة الحرب الأهلية المدمرة. يتعلق الأمر هنا بمحاولة لاستنبات نموذج الدولة الوطنية التقليدية في سياق تفسخ وتفكك الكيان المركزي الأصلي.
ثانيها: تشتت المرجعيات والأطر السيادية داخل البناء السياسي للدولة، في تعارض واضح وجلي مع المرتكز الذي تقوم عليه الدولة الوطنية الحديثة الذي هو الطابع السيادي الأحادي والمطلق للدولة بما يترتب عليه من احتكار العنف المشروع ووضع القواعد المعيارية والقانونية والتنظيمية للكيان الجماعي المشترك. نلمس هذه الظاهرة بوضوح في عدد من البلدان العربية التي تعرف مصاعب التحول الانتقالي نحو الديمقراطية، كما هو الشأن في العراق وليبيا واليمن.
في العراق تتعايش سيادة المؤسسة الدينية مع سيادة المؤسسات المنتخبة التي كفل لها الدستور سلطة التشريع وتمثيل الجسم الاجتماعي، مما يختلف عن الحالة الإيرانية التي قننت فيها “ولاية الفقيه” دستورياً. وفي ليبيا من الواضح أن الأطر التمثيلية المنتخبة غير قادرة على احتواء سلطة التنظيمات القبلية والدينية المسلحة، التي تكاد تحتكر العنف وتمارس من خلال احتكاره دور الوصاية على الحكومة الشرعية.
وفي اليمن تتقاسم المؤسسة القبلية السيادة مع المؤسسة السياسية، مما برز بوضوح خلال نقاشات الحوار الوطني المتواصل منذ تنحية عبد الله صالح.
ثالثها: تراجع الهوية القومية للبناء السياسي الإقليمي (فكرة العروبة انتماء وإطارا اندماجيا) بانبثاق هويات جديدة تتمحور حول دائرتين: ضيقة تتصل بالانتماءات الخصوصية المنفلتة إثر تفكك الكيانات الوطنية أو تأزمها، وواسعة تدخل قوى إقليمية غير عربية في مرتكزات الجغرافية السياسية الجديدة للمنطقة.
في الجانب الأول، نقف على الأخص على صراع الهوية الجديد في ليبيا (بانعكاساته المغاربية) بين الإطارين العربي والأمازيغي، مما نلمس له نقاط تشابه عديدة في العراق وسوريا، وهي بلدان حملت لعقود طويلة لواء أيديولوجيا القومية العربية.
وفي الجانب الثاني، نقف عند الحضور المحوري لإيران وتركيا في أزمات المنطقة ومسارات تشكيل وصياغة جغرافيتها السياسية، في مرحلة أصاب الشلل بلدان المركز العربي .
في التعامل مع هذه المؤشرات، تميل الدراسات السياسية والإستراتيجية إلى النظر إليها بمنطق تحليل الأزمات أي استكناهها كظواهر استثنائية مؤقتة، في حين تذهب بعض المقاربات إلى تطبيق مفهوم “الدولة الفاشلة”على الحالات العربية المذكورة، إلا أننا نعتقد أن الموضوع يتجاوز هذه المناحي البحثية، ويتصل بالرهانات الجوهرية المتعلقة بالشبكة الإشكالية المتداخلة لمفاهيم السيادة والشرعية والمجال الإقليمي، وهو ما كشفت عنه أزمات “الربيع العربي” المتعثر.
ما ننساه دوماً هو أن المفهوم الجديد للشرعية السياسية المبنى على مقتضى السيادة المطلقة في حدود مجال إقليمي يعين إطار المواطنة الحصرية، هو نتاج التجربة الأوروبية في مسارها الطويل، ومنعرجاتها المعقدة التي ارتبطت بتفكك الإمبراطورية الرومانية وتجربة التدبير المسيحي للمجتمع الأهلي ثم نشأة الدولة الإطلاقية التي ورثتها الدولة القومية الحديثة، وهو المسار الذي يعيش راهنا لحظة انسداد ومرحلة إعادة تشكل سريع بدأت تفضي إلى مراجعة مفاهيم السيادة والشرعية والمجال الإقليمي المتجانس الموحد.
صحيح أننا في العالم العربي بعيدون عن مناخ هذه الإشكالات، إلا أننا نعيش اللحظة التاريخية ذاتها وفق تحديات مغايرة، وإنْ تعلقت في مجملها بموضوع الجغرافيا السياسية، الذي هو أوسع من نموذج الدولة الوطنية، التي ليست بالضرورة الأفق الوحيد الممكن للمواطنة وللانتماء السياسي.
ودون الخوض في تفاصيل هذا الموضوع المعقد، نكتفي بالإشارة إلى أن المطلوب يتجاوز ترميم الكيان السياسي للدولة الوطنية التي غدت في غالب الأحيان عاجزة عن تحقيق التماشي مع محددات المجموعة السياسية، التي تتوزعها دوائر سيادة وشرعية متعددة ومتضاربة أحيانا.