-24-
سأله: مالي اراك قد غطى على بصرك فلم تر من الانحلال والفساد والظلم والتخلف الا هذا النفر من الذين يقبضون على الجمر بايديهم ويعيشون غربة اجتماعية هروباً بقيمهم وتصوراتهم وانت بعد ذلك تطلب منهم فوق طاقتهم وأكثر من استطاعتهم. اما يكفيك منهم انهم البقية المتمسكة بدينها الصابرة على صنوف البلاء الاجتماعي والسياسي التي ضربها به طواغيت الظلم والسياسة واساطين الفساد بأشكاله الفكرية والاجتماعية المختلفة.
اجابه: والمرارة والألم يعتصر فؤاده، وان حاول ان يخفيها عن وجهه ولسانه. أتفسر الحرقة والغيرة والتبصير بالأمور ظلماً وتجنيا عليهم ام انك تريد لهذه الفئة ان تضيع في التيه وتسقي السواقي على الحقائق كما صنع الذين اوصلونا الى هذا الحال.
ان الدواهي التي اوصلتنا الى هذا الدرك من التحلل والفساد تعود في اساسها الى اولئك الذين جعلوا مهمتهم تبرير الخطأ وتقديس الطغيان وتأليه الفرد وفلسفة الجبن وتمزيق كرامة المواطن تحت نعال الطغاة.
ويقيناً انها ليست القوى الخارجية مهما كانت مظاهرها واشكالها هي التي استطاعت ان تفعل بنا كل هذه الافاعيل لولا ان البناء قد فقد عناصر صموده، الامر الذي ساعد على ايجاد الفجوات والشروخ عند اول عارض خارجي.
اما تعلم ان الجسم القوي المعاني قادر على التغلب على غزو الجراثيم بعكس الاجساد الممروضة التي لا تقوى على الصمود في وجه أية حشرة او جرثومة.
-25-
اننا في العراق نحمل اعباء تركة ثقافية مثقلة بمعوقات عديدة من التاريخ ومن الواقع، والعالم يتقدم بمتتاليات هندسية ونحن مازلنا لم نحسم بعض القضايا الاساسية في التعامل مع الطبيعة والمجتمع والانسان وتسارع التطورات والتحولات الجارية، وخيبات الامل الكثيرة، افقدت المثقف العراقي دوره وذلك حين نقارنه بمثقف مراحل الحركات الوطنية والتحرر والاستقلال وبناء الدولة، ثم نجده الأن غارقاً في فرديته، مهوماً فوق واقعه، وفي الحالتين لا بد من وقفة نقدية تمكننا من وضع خطواتنا في اول الطريق الصحيح.
-26-
في برلين، أُسقط الجدار، وفي بغداد، أقيمت جدران..
حبذا لو نستطيع ان نسقط كل الجدران والاسوار في عراقنا.
الجدران والاسوار بين المواطن، وأخيه المواطن، بين الزعيم ونده، بين الحزب وضده، بين الطائفة والطائفة، بين الراعي والرعية، بين المواطن والحاكم، بين الشعب والقائد، بين دولة ودولة..
فمتى يرفع البغداديون المعاول والمطارق والازاميل.. ليهدموا جدران الكراهية في بغداد؟
متى يحركون البلدوزرات ليزيلوا حواجز البغضاء وكل العوائق التي ترمز الى الاحقاد؟
متى تتشابك ايديهم وسواعدهم، تنشد الحرية والسيادة، وتبحث عما وراء الكتل الكونكريتية من الحب والمحبة والجواهر الخبيئة من النقاء والصفاء والطيبة.
حبذا لو نستطيع ان نعيش في وطن واحد كبير تسوده الألفة.
حبذا لو نستطيع ان نكون عنواناً خالداً في مسيرة الامم، ونكون رمزاً للمحبة، ومثالاً للوئام، وقدوة للالتحام الخارق في سبيل الخلق والابداع.
حبذا لو تصدق الاماني ليشع وطننا على العالم، لا جدران فيه ولا اسوار ولا حواجز..
جدار برلين لم يكن وحده حين قام، ولم يكن وحده حين صمد، ولن يكون وحده وهو يسقط.. فأرادت الشعوب اقوى الارادات.
-27-
ان ما يوجد في الثقافة القومية من ثقافة دينية وتراثية، هو اساس في تكوين اصالة الشخصية العربية وقدرتها على الحوار مع العالم المعاصر من موقع التمثل الحي، والتطابق المبدع مع معطيات الزمن الراهن وليس من موقع التبعية او النقل بل من موقع العقل، من موقع القدرة على تطوير عمل الفكر من خلال منهجية علمية، ومن موقع القدرة على النظر الى الدين بمنظار ثوري حضاري.
ان اكتشاف البعد الثوري في الاسلام جعل القومية العربية تطرح انبعاث الامة انبعاثاً روحياً وزمنياً معاً. كما جعلها في الواقع العربي اليوم، وهو الواقع الموروث من مرحلة الانحطاط الطويلة.
ان الظاهرة الدينية تحولت الى ظاهرة طائفية. اننا نتكلم على الاسلام، لكننا لا نرى غير المسلمين الموزعين على طوائف، وهم مطالبون بتجاوز طائفيتهم لكي يعبروا عن وحدة العروبة والاسلام، لا ان يغرقوا فيها لكي يهربوا الى عالمية لا يفيد منها الا اعداء العروبة والاسلام في آن.
ينبغي توظيف الجانب الايجابي من الثقافة الدينية في اتجاه عربي قومي معاصر. انذاك، لا بد لهذا الجانب من ان يتجسد في فكرة شمولية عن الحياة تعبر عنها القومية العربية.
ونحن العرب، فهمنا المعنى الحقيقي لقدسية العاطفة الدينية، وهذه ليست هروباً من الواقع وانما امل ومسؤولية ودافع للثورة والنهضة، تماماً كما ينتهي العقل العربي في نظرته الى العالم المعاصر، لأن يكون محركاً تاريخياً في الاتجاه عينه. وعليه، فان القومية والدين جسد وروح.
-28-
تأمل الأوضاع الحالية، ألتفت الى الوراء وابحث في الزوايا، تطلع الى الحياة الآتية.
نعم، تأمل، ألتفت، تطلع.. لا تجد الا الجروح الدرامية.
الناس تبحث عن المادية، تتجاهل الانسانية، تضرب عرض الحائط بالديمقراطية.
تأمل وتطلع، ثم تساءل:
اين العقول الواعية؟
اين المبادئ الاخلاقية؟
تأمل وتطلع، وتساءل:
لماذا العدوانية والافعال الشيطانية؟
لماذا لا توقفون تلك الآلات الحربية؟
لماذا لا تمحون بقايا الجاهلية؟
تأمل، وقل لهم:
المخرج في الآيات القرآنية، في الايثار لا في المحبة الذاتية، في السلم لا في الحروب الاجرامية..
تأمل، اجل تأمل، ففي التأمل، كل الحقائق الخفية.
-29-
وانت في حضرة الفن اينما وجد، تحس انك معني بما تقوله هذه الخطوط وتلك الألوان.. ان شيئاً ما عثرت عليه فجأة بعد ان افتقدته طويلاً وانت لا تحس بهذا الافتقاد. هذا الشيء ليس مطلوباً بالضرورة ان نعرفه ولكنه يرفع اعماقك ويحرك فيك الكثير من المشاعر التي تبدو صعبة الترجمة. انه في النهاية يحث الى الحقيقة الجمالية التي هي غاية.
ان الشيء هو الذي يدفعني دائماً الى حيث يوجد هذا الفن، وهذا الشيء هو الذي يدفعني دائماً الى زيارة المعارض التشكيلية التي تقام في قاعات عاصمتنا بغداد.
لم تكن لدي افكار ما وأنا في طريقي الى هذا المعرض او ذاك، اذ انني دائماً ألغي كل ما يطرأ على ذهني من افكار واترك عيني تجول على سجيتها في ارجاء اللوحة. ولكنني فقط استحضر ابرز عناصرها، معوقاتها، امكاناتها.. الى غير ذلك من الامور المتعلقة بها.
هذه النقاط استحضرها فقط كي تحول بيني وبين عقد اي مقارنة من نوع ما بين ما سأراه وأية لوحة تشكيلية، وتجعلني اقف امام العمل الفني كعمل مستقل ينم داخله عن عناصر ابداعه. اعمال عدة موزعة في اكثر من قاعة من قاعات العرض التشكيلي، كل عمل ينتمي الى فنان مغاير، او مدارس متباينة وتقنيات مختلفة. واتساءل: هل يعطيك عمل واحد القدرة على امساك الخيط بشكل تتمناه ان يكون؟ وعندما لا تجد بداً لا تملك الا ان تحاول وتجد نفسك اخيراً امام قضية التعبير عن العمل الفني بوسيلة اخرى غير اللون والخط، وهي الكتابة- وذلك مأزق آخر- فمحاولة شرح عمل فني آخر من الصعوبة بمكان، ولا تجد بداً ايضاً من السعي في ركب الجميع مبرراً انك تحاول وستبقى اللوحة في النهاية خير ما تعبر عن نفسها. فأنا اؤمن ان النقد الفني بلا تنظير هو محاولة اقامة نص ادبي تجاه النص التشكيلي، ولكنها على اية حال تفي بالغرض تجاه من شاهد العمل الفني، وفي نفس الوقت ربما تشكل حافزاً للرؤية لمن لم يشاهد.
ما اقصده هنا هو اجتهاد او رؤية كاتب لن تتعدى الرؤية الادبية للعمل الفني. والكتابة والفن التشكيلي عنصران اساسيان في العمل الثقافي وموجهات لهما اهميتها في اثراء المجتمع. وكم تبادل الاديب والفنان مواقعهما، وفي جميع الاحوال يبتدئ شرف المحاولة.
-30-
يعزم الانسان على الكتابة تارة ويعرض اخرى. فهل من جدوى في كلمات تزيد الناس احباطاً وشعوراً بالعجز؟ وهل استجد ما من شأنه ان يبدد ما عهدناه من حيرة وألم وسكوت ميز حياتنا السنين الطوال؟
الذين يعتقدون بأن الكتابة نعمة لا ينالها الا المترفون يخطئون خطأ فاحشاً، لا يراه الا من غاص في نعمتها، وتلطم في ويلاتها، فلا يعرف الشوق الا من يكابده، ولا الصبابة الا من يعانيها.
-31-
في الشعر الغربي، الموت قضية شعرية لها رؤاها من هومر الى شكسبير الى ملتون وآليوت. هناك قصائد ومسرحيات شعرية تتمحور حول المعنى الانساني للموت.
والكتب المعنية بالموت فلسفياً وانسانياً غير قليلة في الغرب ايضاً، بينما لا اعرف كتاباً واحداً بهذا الخصوص او مخصصاً لمسألة او جانب معين يتعلق بالموت في تراثنا العربي، لكنه كموضوع يرد في الغالب بشكل ضمني عند المفكرين والفلاسفة والشعراء.
في الشعر العربي المعاصر نجد خطرات عن الموت على النمط الغربي، عند بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، ولست ادري الى اي مدى يمكن للمرء ان يقول بوجود رؤية شعرية واضحة ومتميزة للموت عند اي شاعر عربي قديم او حديث باستثناء ابي العلاء المعري، ذلك الشاعر الذي لم يكتشف بعد.
لست بصدد الحديث عن الفروق والاجتماعية والتاريخية والشعرية، تلك التي تجعل الموت تاريخياً مسألة شعرية عابرة هنا وواضحة هناك في الغرب. ولست بصدد الحديث عن التفاعل الحضاري القائم اليوم والذي يجعل من العالم كله قرية صغيرة جداً يميل الخطاب الشعري فيها الى الاضطلاع بنفس الهموم.
ولكني اود ان أبين الآتي: ربما كان التعبير الشعري الحقيقي عن تجربة الموت وبعمق، عامل اثراء للحياة، وكم نحتاج كبشر يعيشون في بواكير القرن الحادي والعشرين فترة الدمار الرخيص المتنوع الى ان نرى ولو احياناً الحياة في الموت، والموت في الحياة وبشكل باعث على الحياة الافضل ابداً.
-32-
كلما عصفت الذكريات، اهتاجت القرائح، وكلما صب الملح على الجرح ازدادت التهاباً وألماً وبان الصدق في صرخات الوجع.
بين الفعل وردود الفعل، والمعارضة، ومعارضة المعارضة، بين ملفات مطوية، وملفات مفتوحة، يتأرجح مصير فئة غالبة من الشعب العراقي، مغلوبة على امرها، شردها سيف الظلم والطغيان في كل فج من بقاع الدنيا.
هذه قريحة، حركها الحنين، وجراح نكأها الاستكبار، فتفجرت وتناثرت شظاياها تنبش التاريخ والوقائع.. انها تقول لشعبنا هذه كرامتك على المحك، وهؤلاء هم جلادوك، فتصرف.
-33-
– اغرقتموه، اجهزتهم عليه، خدعتموه، فرقتم عائلاته، شرذمتم طوائفه، فتتم ارضه، سقتم احراره الى السجون كالقطعان، وقهرتم ابناءه المغلوبين على امرهم كالحملان، وانعمتم على عملائكم واتباعكم بالانعام والاطيان، حجبتم الحق عن صاحب الحق، ومنعتم صاحب الرأي عن التعبير، وحبستم الحرية عن الصدور، سفكتم دماء الابرياء، حللتم موت الانقياء، لوثتم الانقياء، وهبتم كل ما في الوطن للموت، سخرتم كل سفلتكم للقتل، وفخختم كل الضمائر والارادات..
– والله لو برز الي الجوع شخصاً لخرجت على الناس شاهراً سيفي.
كاد الفقر ان يكون كفراً.
بل هو الكفر، وادهى..
– اعمالنا المشينة، وافعالنا السيئة، هي من اهاج علينا اسراب الجراد وامسك ايدينا عن الحصاد.
– لاالطوفان يوقظنا ولا لفائف الكتب عراقيون
!!! [email protected]