23 ديسمبر، 2024 12:49 ص

مِدادٌ في عباب 44- 47

مِدادٌ في عباب 44- 47

-44-
اكتب: لانني عندما اكتب، تحملني الذاكرة حيث تهب اطلالة المدى، احضن ظلي وأسافر باحثاً عن صدى صوتي، علني اجده في كلمات تشق حبال التيه، لاعرف من انا، كي اولد من جديد.
اكتب، لأن سطور صفحاتي تستجديني من ان افك قيدها كي لا تبقى في عزلة الفراغ الابيض الذي يتمدد في حيز اللاشيء.
اكتب، لانني اسمع همسات قلمي تتسلل الى محطة صمتي تناديني، اختبئ في بحر الكلمات، كي تحطم قيود الافكار العقيمة التي ألبسوها اقنعة وساروا بها يتخبطون مواطن اسرار الحياة، ولانهم لم يفكروا ما كانوا ليدركوا انهم بهذه الافكار لا ينسجون لانفسهم سوى خلايا ميتة كلها اوهام.
اكتب، لانني حين اكتب، اشعر انني اشد نفسي ما بين وسادات الخمول الى بستان تصرخ وروده، هذا هو قاهر الشوك، عاشق الزهر، ملتحف السماء.
اكتب، لانني عندما اسمع اجراس الليل تدق في مساحاتي، انهض لانزع قلمي من بيته واكتب خواطري التي انتشلتها ببراعة من بين احضان اللانهاية التي تشير نحو بدايات المجهول.
اكتب، لان فكرة كالنسيم تراودني، تزرع في دربي حقيقة، ربما حجبتها غمامة الحياة بعض الوقت، فثارت افكاري اللامتناهية، تسطر الكلمات، كي تقف بشموخ امامي، تحمي مركب الحقيقة البيضاء، كي لا تبتلعها عاصفة الاخطاء وترمي بها في عالم كله سراب.
اكتب، كي اسافر في قطار الكلمات، أسير غورها، وأتأمل اجنحتها الطائرة بريش حروفها، علني احرك ذاتي من تمغنط وجودي الحائر بين لملمة جمود اجزائي المتباعدة.
اكتب، لانني عندما اطلق احساسي تتوحد فيّ انا الحقيقية وانا اللاحقيقية، وتصبحا في تجاذب مذهل، فتولدا قوة خفية تثور في امواج ضعفي، فأكتب من قبيل الانتصار الضاحك على تنافر وتجاذب الاشياء في فوضويتها.
اكتب، كي لا يهدهدني شوك الملل، لانه ان فعل ذلك، سوف يزحف وينام في اعماقي، عندها سوف يمتصني جثة هامدة، تزحف في دروب الرماد.
اكتب، لانني اشعر ان كلماتي تقرب لي مسافات البعيد وتزحزح في نفسي كياناً لا يحلق الا في طائرة الاثير.
اخيراً، اكتب، لان الكتابة تعني لي حياة ووجود، والتوقف عن الكتابة، يعني لي موت وعدم.
-45-
انه، من الافضل لي ان اسكت، بل، انه من الافضل لي ان اقول شيئاً. رؤيتان تتجاوزان حدود التعمية الذهنية، وتنحازان لاتجاهين متغايرين قد لا يتمكنان ان يلتقيا. ففعل السكوت هو غير فعل الكلام وبينهما ثمة فواصل لابد من شحنها دائماً بعناصر الحياة.
الذي يفضل السكوت، انما هو مملوء بالكلام. والذي يفضل ان يقول شيئاً، انما هو ايضاً مملوء بالكلام. الاول، يعرف كل شيء، حسب مديات معرفته، ولكنه يغلق فمه بالقفل ويرمي بالمفتاح في قعر الذاكرة. والثاني، يعرف هو الآخر، وحسب مديات معرفته، ولكنه يفتح فمه على مصراعيه، ويقرر ان يقول شيئاً، اي شيء. والحياة بين هذين تجري، والناس يتوالدون، والاشجار تنمو…
فأيهما افضل من الآخر، الذي يسكت ام الذي يقول؟ لماذا يفضل السكوت، هو الذي يريد ان يسكت؟ الا انه في السكوت افضل، ام ان سكوته اسلم له ولحياته، طالما انه لو نطق فسيقود اصابعه الى التهلكة.
ولماذا يفضل الكلام هذا الذي يريد ان يتكلم؟ الا انه غيور على حاضره، وبالتالي، فانه يجب ان يكون شاهداً على ما يجري، وشهادته لا تكون عادة الا بالكلام.
هل الزمان رديء؟ ولذلك ينبغي علينا ان نسكت.
هل الزمان رديء؟ ولذلك ينبغي علينا ان نتكلم.
يقول برتولد بريخت- “انهم لن يقولوا كانت الازمنة رديئة، وانما سيقولون لماذا صمت الشعراء”.
فعلاً، لماذا يصمت الشعراء؟
ولماذا لا نفكر في ان نقول شيئاً طالما انه باستطاعتنا بعد ان نتكلم.
لن يغفر للشاعر احد، ان هو سكت، في وقت ينبغي فيه ان يقول الكثير الكثير….
وبدلاً من الهمس في آذان حصان تشيخوف، لابد من الصعود على منبر عالٍ كما فعل بلال ذات يوم، وكما امتدت الايادي الى اول ناقوس يقرع.
ولتكن الكتابة حافزاً للتغيير، وشعلة تتوهج عندها مصائر الكلمات.
لتكن الحروف نبراساً يشع، وعدسة تتجمع في بؤرتها خيوط المستقبل.
أوليس المبدع هو ضمير الناس؟
فهل يتوقف الضمير؟
كلا، فلابد للضمير من ان ينصت لصوت قاع النفس ليظهر صداه امام الافق.
لابد له من ان يقول شيئاً… شيئاً آخر.
-46-
اذهب الى اية مكتبة عامة عندنا في العراق او في اي قطر عربي وابحث بين محتوياتها من كتب ومجلات، ابحث عن مجلة باللغة الفرنسية او الالمانية او الروسية.. ان كنت تتقن احدهما، فلن تجد ولن تجد اثراً باللغة الالمانية او الروسية..
ونادراً ما تجد مطبوع ولا سيما مجلة باللغة الالمانية او الروسية او غيرهما ذا قيمة، وستجد القليل باللغة الفرنسية واكثر من الهم على القلب باللغة الانكليزية.
وما يقال عن الكتب والمجلات ووسائل الثقافة المقروءة يقال عن الافلام ووسائل الثقافة المرئية والمسموعة ايضاً.
ونتذكر ان اقطارنا العربية ومنها عراقنا كانت تحت وطأة الاستعمار البريطاني والفرنسي، فذهب الاستعمار وبقينا ضمن الخطوط التي رسمت لنا، ضمن ثقافة الانكليز والفرنسيين، تخلصنا من الجندي بالبندقية ولم نتخلص من الآثار الاخرى.
ليس ضد الثقافة الانكليزية والفرنسية هذا، فهي ثقافة انتجت حضارة غنية، وقد نختلف في تقييم هذه الحضارة، ولكن لا يمكن ان ننكرها او نستخف بعمق تأثيرها ودورها.. ولكن السؤال هو لماذا لم ننفتح على ثقافات الشعوب الاخرى ان كنا نؤمن حقاً بالتفاعل الثقافي بين الشعوب؟
من الطبيعي ان يكون غير معقول ان نفرض على انسان ان يدرس اللغة الالمانية مثلاً، ولكن مثل يتطلب وجود مؤسسات ثقافية فاعلة لانها لا يمكن ان تتم بجهد فرد او افراد. اللغة الروسية الغنية بادابها، تقتصر معرفتنا بها من خلال ترجمات قليلة كانت في الغالب قد نقلت للعربية من الترجمات الانكليزية او الفرنسية، اي ترجمة الترجمة. وعن الادب الياباني لا نعرف الا كتاباً هو (ميشيما) الذي انتحر بالطريقة اليابانية التقليدية. والادب الاسكندنافي ليس حظه معنا باحسن من حظ الاداب الاخرى، نتعرف عليها من خلال الترجمات الفرنسية والانكليزية.
احدهم يسأل –لماذا الترجمات الصحفية في معظمها ان ليس كلها تتحدث عن اميركا، حتى صرنا نعرف عن رعاة البقر اكثر مما نعرف عن جيش صلاح الدين، ولماذا نعرف عن عدد المطاعم في نيويورك اكثر مما نعرف عدد المساجد في أية مدينة من مدننا او عدد المستشفيات فيها؟
في اميركا، ينجح احد المختبرات في انتاج دواء ولو جزئياً، فيقيم الدنيا ويقعدها، وتعقد المؤتمرات الصحفية وتتسابق وسائل الاعلام لاعلان الخبر.. وعندنا في كل قطر عربي ولو بدرجات متفاوتة لا يجرؤ مسؤول ان يعلن خبراً ان لم يوافق عليه رئيسه ويجبر على السكوت لأن الما فوق لا يسمح له بالكلام.
هذا نموذج فقط ليس لنظام بل لعقلية، وقد يكون للمسؤول وجهة نظر لن نناقشه فيها، ولكن كما قلت، انها عقلية وموقف.
مخترعون ومبتكرون ومفكرون.. تكبت اعمالهم واصواتهم بينما يتاح للامريكي مثلاً ان يقول ويتحرك ويعبر عما يريد ، فنعرف ويعرف ماذا يدور عندهم.
-47-
كل ذي عين ينظر ولكن ليس كل ذي عين يبصر. كل ذي بصيرة يبصر ولكن ليس كل ذي بصيرة ينظر. النظر ادراك حسي بواسطة العين يعين الانسان على معرفة الاشياء وتمييزها.
هذه القدرة اوجدها الانسان في بعض الآلات ومع تطور العلم اصبحت هذه الآلات الربوتية تميز اشياء كثيرة، الا ان الفرق بين قدرة الانسان في النظر ما زالت بعيدة عن قدرة الآلات.
البصر يوجد في الانسان، وفي بعض الناس، وليس كلهم، ولا يوجد في الآلات مطلقاً.
البصر هو التفكير فيما وراء المنظور، التفاعل معه، اتخاذ الموقف الصحيح تجاهه، تنفيذ التحرك حياله، وتوقع النتائج… ولذلك فالبصر درجات.
القدرة على البصر قد تكون فطرية او مكتسبة، ولكنها في النهاية تؤدي الى ذات النتيجة.
والبصر يكون في كافة الجوانب الحياتية… الانسان وما يتعلق به من تصرفات وتحركات ومواقف… التكنولوجيا وما يتعلق بها من ابحاث وانتاج وتصنيع، التجارة وما يتعلق بها من توقيت وتمييز وتوفيق، الاديان وما يتعلق بها من عقائد وعبادات، وعادة لا بد من توفر عوامل اخرى بجانب العقل حتى يتمكن الانسان من الابصار.
في التكنولوجيا لا بد من بعض العلوم الاساسية مع العقل.
في التجارة لا بد من الخبرة وغيرها مع العقل.
في الدين لا بد من بعض الاساسيات مع العقل.
في النفس الانسانية، وهي اعقد القضايا، لا بد من فهم الانسان حتى يمكن الابصار في اموره.
قوة النظر تقل في الغبار، وكذلك في الظلام حتى يصل المرء الى مرحلة انعدام الرؤية.
ولكن كل ذلك لا يؤدي الى شيء بالنسبة لقوة البصر، عدم النظر قد يؤدي الى خسائر مادية وعادة تكون خسائر محدودة، ويمكن ازالة اثارها.
عدم البصر يؤدي الى خسائر مادية ومعنوية وقد تلازم آثارها الانسان طوال حياته… بل وحتى بعد موته.
[email protected]