18 ديسمبر، 2024 10:15 م

مَنْ المكلَّف بتفسير القرآن؟

مَنْ المكلَّف بتفسير القرآن؟

بدءاً لابد من القول: إن تفسير القرآن الكريم يعدّ من الأمور التي ذهب المسلمون فيها مذاهب شتى، وامتدّ هذا التشرذم والتشظي إلى زمننا الحاضر، ولعل من آخر نتائج هذا التشظي ظهور طائفة يطلقون على أنفسهم أو أطلق عليهم مخالفوهم مسمّى (القرآنيون) وهم الذين يرفضون تفسير القرآن وبيانه بشيء أو قول من خارج القرآن نفسه، ولهم في ذلك علل يذكرونها لمن شاء أن يراجعها عندهم، وليس مراد المقال أن يخطّئ أحداً أو يقصيه، ولكن هدف المقال بيان علة التشظي والتشتت الحاصل في تفسير القرآن، على الرغم من أن الأمة بكل أطيافها تعترف بأن القرآن واحدٌ نزل من عند الواحد، ولكن كيف حصل التشظي، وما منطلق الخلاف؟

لم يجرؤ أحد في زمن النبي(ص) أن يضع قولا مقابل قوله(ص) في بيان القرآن وتفسيره، ولذا ما توهمه (القرآنيون) من أن القرآن ليس بحاجة إلى مُفَسِّر، وهو كلام بيّن واضح للأفهام، ينكره عليهم القرآن الكريم بنص واضح وجلي يكشف فيه المكلّف ببيان القرآن للناس، وهو النبي(ص) في زمنه، قال تعالى{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل/44)، وبما أن المنطق السليم يقول: إنّ النبي(ص) لا يبقى في هذا العالم مع بقاء القرآن الكريم، لذا لابد من وجود قائم على القرآن وبيانه يقوم مقام النبي(ص)، ويكون فرداً في أمته كما كان النبي(ص) فرداً في زمنه وأمته، قوله في بيان القرآن هو القول الفصل.

إذن الأمة من هنا انطلق خلافها وتشظّت إلى مذاهب، ولم يفلح مع هذا التشظي والخلاف ما حاولت السلطة فرضه من منطق موهته بالمعيارية والقياسات، وما إلى ذلك من أمور عاندها النص القرآني ورفضها بوضوح، إذ إن تلك القواعد والمعايير اصطدمت بصريح القرآن، فتبلبلت الناس: مَنْ يقدس القرآن شكك بتلك المعايير والقوالب المنطقية، ومن قدّس تلك القوالب المنطقية شكك بالقرآن، وإن حاول تمويه شكوكه وفلسفتها وإلباسها قناع التساؤلات والتوقف عند بعض الأمور دون ردها أو الاعتراض عليها!!

بعد أن استبانت علة الخلاف وسبب التشظي كان ينبغي على الأمة في هذا الزمان، وهو زمان انتشار العلم وتوسع أفق النظر والتدبر، أن تغادر ساحة الخلاف وتعود إلى الساحة الأولى ساحة الاجتماع على ناطق بالقرآن ومبين له وهو النبي(ص)، وبعد النبي(ص) اشتغلت آلة التعتيم الإعلامي على الناطق بالقرآن والمفسّر له، على الرغم من وجود نصوص كثيرة من المخالف والمؤالف تشخّص ذلك الناطق بعد النبي(ص) وهو علي بن ابي طالب(ع).

أمّا بعد علي(ع) فقد تم تعفية رسوم سبيل الله القويم، والعمل على طمس علائمه، فانطلق الناس كلّ يسمي له إماماً، وهم بهذا يعترفون ـ قهراً ـ بضرورة الإمامة، وإلا لماذا يسمون من يتّبعونه إماما؟! ولكنهم مع اعترافهم بضرورة الإمامة ينكرون أن يكون الله سبحانه هو من يختار الإمام عليهم كما اختار الأنبياء والأوصياء عليهم السلام قبل ذلك، وكأنهم يقولون بأن سنة الله في الاصطفاء والاختيار فد تعطلت وتوقفت عند النبي(ص) هكذا من دون دليل!!

إنّ الدليل القرآني الصريح قائم على نقض ما توهمه الناس دليلا على عدم الاختيار، إذ يقول الله تعالى{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(القصص/68)، فالآية هنا صريحة في أن الاختيار مطلقاً بيد الله سبحانه وليس بيد الناس، وعلة ذلك؛ لأنه هو الخالق سبحانه، وهو أعلم بخلقه صالحهم وطالحهم، وليس لأحد أن يزعم هذا العلم غيره سبحانه، وإلا كان شريكاً له في الخلق!!! فهل هناك من يقول ذلك؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

الآية الأخرى تتحدث بتفصيل أكثر في مسألة الاختيار الإلهي، قال تعالى{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}(الأحزاب/36)، وهذه الآية الكريمة فيها رد قاطع على من فهم أن أمر الخلافة والإمامة بيد الناس متذرعاً بفهمه المنقوص والمنقوض للآية الكريمة التي تقول{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(الشورى/38)، فهذه الآية التي أعطاها المتسلطون صفة الإطلاق، تقيّدها آية الاختيار لله سبحانه ولرسوله(ص)، إذن على وفق ذلك إذا جاء نص باختيار الله سبحانه ورسوله(ص)، يكون لزاماً على الناس التسليم لهذا الاختيار، ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً بعيدا، وهنا في هذا المفصل التاريخي والديني الكبير أدعو كل من يقرأ هذا المقال أن يرجع ويقرأ (حديث رزية يوم الخميس) الذي رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما في مواضع كثيرة.

ومن المؤكد أن حديث الرزية سيجعل القارئ الكريم يضع يده على مبدأ الخلاف والتشظي ومنطلقه، ولكنه سيبقى في حيرة من أمره بشأن كتابة الكتاب العاصم للأمة من الضلال (وتدبر مفردة الضلال في الآية وفي الحديث، والآية تبين بإحكام لا سبيل للتلاعب به أن الضلال صفة مَنْ؟ صفة من يعصِ الله ورسوله).

ولكي لا تكون أخي القارئ ممن يعصِ الله ورسوله، فعليك أن تبحث عن هذا الكتاب، إذ من المعلوم أن هداية الناس متوقفة على اختيار الله ورسوله، وضلالهم هو في اختيار الناس لأنفسهم، هذا ما يقرره صريح القرآن الكريم وليس كاتب المقال.

في كتب المسلمين الشيعة ذكر النبي(ص) اختيار الله ورسوله لمن يخلفه بالأسماء من بعد النبي(ص) إلى يوم القيامة، لأن حديث الرزية يكشف بوضوح لا مراء فيه أن هناك قوّاماً بعد النبي(ص) يقومون مقامه، لا يمس الأمة باتباعهم الضلال إلى يوم القيامة، وبدءُ الكتاب في الرزية هو نفسه بدؤه عند الشيعة: قرّبوا لي كتفا ودواة أكتب لكم كتابا … (عند السنة)، ويا علي أحضر صحيفة ودواة أكتب لكم كتابا … (عند الشيعة).

ولو أن الأمة شرعت في مراجعة أصل الخلاف، وبحثت عن علاجه بحثاً حقيقيا مخلصاً هدفه حقن الدماء وإطفاء نائرة التشتت والتيه والشحناء والبغض، لعلمت الحق وهُديت إليه، وتوضح لها سبيل الله المستقيم الذي تدعو الله سبحانه أن يهديها إليه في اليوم خمس مرات فرضا غير التنفل، فالدعاء باللسان من دون العمل والبحث لا يجدي نفعا، وأولئك القوّام الذين اختارهم الله ورسوله بعد النبي(ص) هم مَنْ يقع على عاتقهم بيان القرآن وتفسيره، ويكون قوله تعالى{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل/44)، في النبي(ص) في زمنه، وفي من يقوم مقامه بعده ممن اختارهم الله ورسوله، وليس لأحد سواه الاختيار، ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا.

على وفق هذا القرار الإلهي المحكم، أين سيكون موضع مَنْ تطفّل على القرآن الكريم وبادر إلى تفسيره من دون إذن الله سبحانه وتعالى والقرآن كتابه؟؟