يريد الرسام أن يرى جمالا يفتنه إذ هو سيد خلقه”1[1]
تعود نشأة الفنون الجميلة وتبلور أنماطها المختلفة إلى النقلة المثيرة للدهشة التي أحدثتها وسائل التكيف مع الطبيعة ، والى التغييرات الجذرية التي حدثت في عملية خلق الجمال في العصر الوسيط في الجانب المادي من الفنون ومحاولة التحرر من وطأة تأثيرات العلوم النظرية والتصورات المجردة. لقد شملت الابتكارات الكبيرة مجال المادة والزمان والمكان وبدلت تقنيات الحالة الإبداعية لدى الفنان، ووصلت في نهاية المطاف إلى حد تغيير مفهوم الفن نفسه واستبداله بنوع أكثر جاذبية و سحراً.
لقد أصبحت الفنون الجميلة في عصر النهضة تنتمي إلى دائرة الحرفة والصناعة وتفيد بالمعنى العام العلم الحاصل بمزاولة العمل ونتيجة الممارسة ولكنها تدل بالمعنى الخاص على العلم المتعلق بكيفية العمل ويطابق الملكة العملية والمهارة. وإذا كانت الصناعات الحرة في عصر النهضة تفيد اللغة والبلاغة والمنطق والحساب والفلك وإذا كانت الصناعات المادية تشير إلى النجارة والحدادة من أعمال المصانع فإن الصناعات الجميلة تدل على الفنون الجميلة وهي الموسيقى والتصوير والنحت والنقش والعمارة والزخرفة وهي طرق تتعلق بكيفية تحصيل الجمال لاسيما في الفنون التشكيلية.
لكن متى ظهرت الفنون الجميلة لأول مرة في تاريخ الأعمال الفنية؟ وكيف ارتبط فن عصر النهضة بظهور النزعة الإنسانوية humanisme وبسيطرة المدرسة الطرائقية maniérisme؟
لقد تمت ولادة الفنون الجميلة خلال القرن الخامس عشر ميلادي في ايطاليا وفرنسا وارتبط بالتحولات الجوهرية التي حدثت في أوروبا وسارعت من نسق التبادل التجاري الذي انطلق من القارة الفتية في اتجاه العالم وعكس موجة الإصلاح الديني والتوجه نحو إعادة تكوين الجسم السياسي على أسس دنيوية علمانية.
لقد تمثل المنعرج في عصر النهضة في الانتقال من الفضاء الثقافي المغلق إلى الانفتاح الأنثربولوجي قصد دراسة أشكال الواحد والآخر واتخاذ اللغة الفنية الوسيط الرمزي الذي يتكلم بلسان الإنسانية جمعاء وتم اعتبار تقدم العقل معجزة طبيعية مستمرة وتم منح الفنانين لأول مرة الكرامة التي تليق بهم وتم تثمين أسلوبهم المشاكس في الحياة ووضعت الطبيعة والتقنية والفن في لعبة مواجهة مع السلطات المتحكمة. لقد مثل عصر النهضة حدثا ثقافيا استثنائيا جاء بتصور جديد للحياة وللواقع جسدها في الفنون والآداب والعلوم والمهن والشيم وحققت قطيعة مع الماضي وأعادت الاعتبار إلى دراسة الجمال عند الإنسان. لقد وقع التركيز في عصر النهضة على العلاقة بين النزعة الانسانوية والفضاء وصعدت على السطح أفكار القوة والإبداع والشباب وصارت الحقيقة وليدة عصرها وتجاوز الفن الطبيعة وقام الفنانون بإعادة إنتاج صورة عن الإنسان تنبض بالحياة وتشع بالحقيقة أكثر من العالم ذاته الذي ظل مصدر إلهامهم.
لقد تم إنتاج جملة من الآثار الفنية الرائعة ضمن إطار محاكاة الطبيعة والنظرية الانطباعية ولقد تميزت بالمهارة والدقة والجودة العالية وعكست رغبة الفنانين في الانتصار إلى قيم الدنيا وتحرير الجسد وتثمين ماهو مادي بتنشيط التأمل والإحساس والإلهام والتذوق والإبداع والبحث عن الإمتاع واللذة والسعادة.
لقد اشتهر العديد من الفنانين وبالخصوص في الرسم والنحت والموسيقى والشعر وألف دانتي الكوميديا الإلهية وفاقت لوحات دي فنشي ورافيال وميكال أنج وألبرتي وبوتيسلي الخيال وتم تثوير الأدوات المستعملة في الإنتاج وذلك بالحرص على الاستمرار والثبات والصمود في مصارعة النسيان والتلاشي والانهيار والامحاء.وكان المحرك الأساسي لتطور الفنون الجميلة هو الرغبة في العودة إلى الطبيعة.
لقد أعلن ميكايل آنج أنه لن يعلم الفن إلا للنبلاء ولن يمنح أعماله ومشاريعه سوى للمتعاطفين معه والمعترفين بالكرامة الجديدة للفنان وانه يستلهم آثاره مما يشعر به من نقص ومن حرية خياله ووجدانه.
لقد قاومت الفنون الجميلة في عصر النهضة النزعة اللاهوتية وحالة اللاّتحضر والفوضى والتوحش التي كانت عليها أوربا ودعت بطريقة رمزية إلى إعادة إنتاج قيم المدنية والتحضر عند الرومان والإغريق.
النزعة الإنسانية عكست موقفا فنيا وعبرت عن رؤية للكون وأعادت تعريف الإنسان وركزت على الكرامة وعلى الضمير وأعطت أهمية إلى الإحساس والخيال والوجدان ونادت بالاعتراف بالطابع الهش والخطاء والمتناهي للذات وحملت المرء مسؤولية صناعة مصيره ومواجهة ظروفه والتحلي بالتسامح2[2].
لقد نصصت الفنون الجميلة على مسألة تجديد الأصل بالعودة إلى الطبيعة وليس من خلال استنساخ القديم وعبرت عن الجمال الفردي وركزت على الشكل والأسلوب والبحث عن التوازن والتناغم والكمال وحققت المصالحة بين النزعة الطبيعية والنزعة المثالية وبين تجلي المظاهر الخلابة وتخفي الأسرار الغامضة.
لقد تأثر الفنون الجميلة في عصر النهضة بالفن الهيليني والفن الروماني والفن البيزنطي والفن الإسلامي وحاولت المزج بين وضوح الأسلوب وثراء المضمون وقوة الألوان وصلابة المادة وحدة الأشكال وبناء نظرة شاملة وبسيطة للمكان والمساحات الشاسعة والتأمل العميق في الزمان والسفر صوب أبعاده الثلاثة.
لقد تداخلت الفنون الجميلة مع تطور الفن الغوطي في الهندسة المعمارية والفن الديني في الرسم والنحت وتحولت إلى موضع للرهان السياسي ومكان لإظهار للقوة في الصراع بين الكنيسة وخصومها الاجتماعيين ومثلت التصورات الملكية المحافظة وكذلك أظهرت نزعة تحررية وواقعية دراماتيكية.
اللافت للنظر أن الثورة تجسدت في فنون الرسم والنحت والهندسة المعمارية وارتبطت بالرحلات الاستكشافية والاكتشافات الكبرى وجسدت روح المغامرة واقتحام المجهول والتقاط المدهش والغريب.
إلا أن أهم ما يمكن ذكره بعد ميلاد الفنون الجميلة إبان عصر النهضة هو البحث في النظرية الفنية عن مادية الجمال وجودة الإتقان ووحدة الأسلوب والتبشير بثقافة فنية جديدة تزاحم الرؤية اللاهوتية السائدة. فكيف تشكلت الحداثة في علم الجماليات على التفريق المنهجي بين الفن والطبيعة ؟ ولماذا تم تقديم الجميل الفني على الجميل الطبيعي؟ وماهي استتباعات هذا التقديم على نظرة الفنان إلى الطبيعة والأثر الفني؟
المراجع:
1. Leonard de Vinci, Carnets, percepts du peinture, Tome2, traduction servicen, édition Gallimard, Paris, 1942, p197
2. Loilier Hervé, histoire de l’art, édition marketing , Paris, 1994,p192