18 ديسمبر، 2024 11:21 م

ميثيولوجيا- الشيطان محدثا

ميثيولوجيا- الشيطان محدثا

بينا أنا في طريقي المسائي، أمارس الرياضتين: 1- الجسدية، في السير ميلا، 2- الروحية في الصلاة ، وكلاهما يغني التأمل. تستوقفني، في الجامع على الجدار، إحدى المعلقات، ذات القيمة الأخلاقية والروحانية، فتوقظ في داخلي إشكالية، وهي أن الشيطان محدث في التراث الإسلامي، ولعل الاشكالية بطبيعتها، تترتب عليها فرضيات، وتثير سؤالات عدة، منها: أ ليس الشيطان –بحسب النص القراني- رفض أن يتسلم الإنسان الأمانة، ويكون خليفة في الأرض؟ (البقرة34). أ ليس هو القائل : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }؟(ص82، الحجر 39). كيف يكون ناصحا؟، ومما يؤجج روح البحث في الإشكالية، هو انّ الشيطان كان ناصحا للأنبياء، وعلى وجه الخصوص لأحد أصحاب الرسالة، هو كليم الله موسى. ومن خلال دراساتي عن الشيطان، عرفت أنه تشكلت له شخصية متنامية في حركيتها، و أن له خبرات في مناحي الفكر الإسلامي، ومنها التاريخ الذي تجده في غضونه له يمثل دورا، وله أثر، في المراحل التاريخية من فعل، او استجابة، أو رد فعل، ولاسيما في السيرة النبوية. غير أنّه في الحديث كان له وجود تسلل إليه من الموروث الديني ذي الوجود المتنوع.

الرواية –بحسب الصورة التي التقطتها- عن المجلسي (ت1111هـ/ 1700م) ( بحار الأنوار ج 101- ص 48) (ج 108 – ص 171): قال إبليس لموسى -عليه السلام : يا موسى لا تخل بامرأة لا تحل لك ؛ فإنه لا يخلو رجل بامرأة لا تحل له، إلا كنت صاحبه دون أصحابي .

في التراث الحديثي الشيعي، ذكرها المجلسي مفصلا مرتين (بحار الأنوار ج 13 – ص 350؛ ج 60 – ص 251 – 252) : ومنه بالاسناد إلى الصدوق عن أبيه عن سعد عن أحمد بن محمد عمن ذكره عن درست عمن ذكره عنهم -عليهم السلام- قال : بينا موسى جالس إذ أقبل إبليس وعليه برنس  فوضعه ودنا من موسى وسلم ، فقال له موسى : من أنت ؟ قال : إبليس ، قال : لا قرب الله دارك ، لماذا البرنس؟ قال : اختطفت به قلوب بني آدم ، فقال له موسى عليه السلام : أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ، قال : ذلك إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في نفسه ذنبه ، وقال : يا موسى ، لا تخل بامرأة لا تحل لك ؛ فإنه لا يخلو رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي ، وإياك أن تعاهد الله عهدا فإنه ما عاهد الله أحد إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحل بينه وبين الوفاء به ، وإذا هممت بصدقة فأمضها ، فإذا هم العبد بصدقة كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبينها.

وبيّن : قوله الشيطان : ( كنت صاحبه ) يعني أغتنم إغواءه وأهتم به بحيث لا أكله إلى أصحابي وأعواني ، بل أتولى إضلاله بنفسي .(م.ن. ج 13 – ص 350)

أوردها عن الصدوق (ت381هـ) بسنده عن الأئمة- عليهم السلام، وفي الطريق مجهولية التعبير نحو”عمن  ذكره” مكررة، في حين لم أقف على الرواية عند الشيخ الصدوق . نقلها أيضا ميرزا حسين النوري (1245 هـ – 1320 هـ) ( مستدرك الوسائل – ج 16 – ص 87) نقلا عن القطب الراوندي سعيد بن عبد الله (ت573 هـ) بنفس السند الذي ذكره المجلسي. وعندما ترجع الى قطب الدين الراوندي (قصص الأنبياء – ص 156) حيث ذكر الخبر، لم يشر الى الصدوق وأبيه في السند المرفوع ، قال:” وباسناده عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد ، عمن ذكره ، عن درست ، عمن ذكره عنهم عليه السلام “.

نخلص هنا الى أن القطب الراوندي هو الواسطة في الخبر، وهو من العلامات البارزة في التصوف لدى الشيعة. وفي الخبر “درست بن أبي منصور الواسطي” الذي غالبا ما تجده بين مجهولين “عمن أخبره ، عن درست بن أبي منصور ، عن رجل “(العلامة: مختلف الشيعة 3/248؛ منتهى الطلب 8/404)، ودرست هذا من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم، قال النجاشي:”روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام” (الرجال 163). وقال عنه الكشي والشيخ الطوسي: واقفي. (اختيار الرجال 336). لعل لفظ “واقفي” أوقف جرح أو تعديل درست عند رجال الحديث الشيعة، أي ذكروه في تراجمهم، وتركوا وثاقته أو عدمها.

في التراث الحديثي السنّي، كان ذكر هذه الرواية أكثر، ومرجعها أقدم، فقد نقلها : ابن الجوزي (ت 597هـ): ذم الهوى (ص: 150)؛ ابن عساكر (ت571هـ) مرتين (تاريخ مدينة دمشق ج 61 – ص 125، ص 127؛  أبو بكر البيهقي (ت 458هـ): شعب الإيمان (5/ 118)؛ الغزالي، ابو حامد (ت505هـ) إحياء علوم الدين ج 8 – ص 182 ؛ ابن أبي الدنيا (ت281هـ): مكائد الشيطان (ص: 71). أغلب هؤلاء صنّف في الأخلاق والتصوف والرقائق، وأشهرهم البيهقي، و ابن أبي الدنيا. ولو أخذنا رواي ابن عساكر نجدهما فيه:

ابن عساكر (ت571هـ) 1-: أخبرنا أبو محمد بن طاوس أنا عاصم بن الحسن أنا علي بن محمد بن عبد الله أنا الحسين بن صفوان نا ابن أبي الدنيا نا أحمد بن عبد الأعلى الشيباني نا فرج بن فضالة عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال بينما موسى في بعض مجالسه إذ أقبل إبليس وعليه برنس يتلون فيه ألوانا فلما دنا منه خلع البرنس فوضعه ثم أتاه فقال له السلام عليك قال له موسى من أنت قال أنا إبليس قال أنت فلا حياك الله ما جاء بك قال جئت لأسلم عليك لمنزلتك من الله ومكانك منه قال فما الذي رأيت عليك قال به أختطف قلوب بني آدم قال فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه قال إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله ونسي ذنوبه استحوذت عليه وأحذرك ثلاثا لا تخل بامرأة لا تحل لك فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها ولا تعاهد الله عهدا إلا وفيت به فإنه ما عاهد الله أحد عهدا إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء به ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحب دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء به ثم ولى وهو يقول يا ويله ثلاثا علم موسى ما يحذر به بني آدم. (تاريخ مدينة دمشق ج 61 – ص 127)

2- أخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر أنا أبو بكر أحمد بن الحسين أنا أبو عبد الله الحافظ حدثني محمد بن صالح بن هانئ ثنا أبو علي الحسين بن الفضل البجلي ثنا الحكم بن موسى ثنا الفرج [بن فضالة]عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال بينما موسى [الحديث]( تاريخ مدينة دمشق – ج 61 – ص 125 )

غير أنّ اللافت أنهم جميعا يرونها عن الشيطان، عدا الخطيب البغدادي (ت463هـ) وجد له طريقا أنسب، وهو الطريق الى عمر بن عبد العزيز، وفي السند فرج بن فضالة ايضا. (تاريخ بغداد – ج 13 – ص 174) :أخبرنا التنوخي قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو الحسن المثنى بن جامع ، حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا فرج بن فضالة فرج بن فضالة عن كليب بن ميمون عن ميمون بن مهران قال : أوصاني عمر بن عبد العزيز فقال : يا ميمون لا تخل بامرأة لا تحل لك وإن أقرأتها القرآن ، ولا تتبع السلطان وإن رأيت أنك تأمره بمعروف وتنهاه عن منكر ، ولا تجالس ذا هوى فتلقى في نفسك شيئا يسخط الله به عليك .

 يتحصل مما تقدم: أن راوية الخبر ” عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ “، وأن أقدم من رواه ابن أبي الدنيا، (مكائد الشيطان ص: 71):  قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ قَالَ….

في السند ضعف بيّن، نحو : فرج بن فضالة بن النعمان القضاعي التنوخي أبو فضالة الشامي عن ربيعة بن يزيد ويحيى الأنصاري وعنه شعبة ووكيع ومعاذ بن معاذ وثقه أحمد في الشاميين وضعفه النسائي والدارقطني قال ابن سعد مات سنة ست وسبعين ومائة.( الخزرجي: خلاصة تذهيب تهذيب الكمال، ص308).

أما صاحب الرواية عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي الشعباني المعافري(ت 156 ه‍ )، فقد ترجم له: خليفة بن خياط: التاريخ 543؛ البخاري: التاريخ الصغير 2/114، التاريخ الكبير 5/283؛ طبقات علماء إفريقية 27 – 33 ورياض النفوس 1 : 96 ؛ تاريخ بغداد 10 : 214 . وضعفه: ابن معين: التاريخ، 2/224 ، والنسائي: الضعفاء 206 ، والعقيلي: الضعفاء 2/333، وأحمد بن حنبل وأبو زرع وابو حاتم. (ابن ابي حاتم : الجرح والتعديل 5/235)، فانه يروي عن مجاهيل، وحسب التجريح أن يقول علماء الجرح أنه روى عنه ابن منعم: الجرح والتعديل 9/259، 284، 295، 329. وهو عند ابن حبان :  لا يحتج بخبره إذا كان من رواية عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، وإنما وقع المناكير في حديثه ( الثقات 5/95) . وقال ، كان يروى الموضوعات عن الثقات ، ويأتي عن الاثبات ما ليس من أحاديثهم ، وكان يدلس على محمد بن سعيد بن أبي قيس المصلوب.( المجروحين 2/150؛ انظر: ابن عدي الكامل : الضعفاء  4/ 279 ).

أخيرا، يجدر العلم، بان مثل هذه الروايات، كثيرا ما طفقت الى السطح الفكري، في منتصف القرن الثاني للهجرة، الثامن للميلاد، أو قبله بقليل، و فيه كانت فسحة من الحريات الفكرية، إذ ظهرت أكثر المذاهب  والمعتقدات أثرا في الأجواء الفكرية كـ :”الجبر، والتفويض، والاعتزال ، والتصوف في غيرها، وكان من نتاجها مثل هذه الروايات، بخاصة اذا احتسبنا تاريخ وفاة الراويين: “درست بن ابي منصور” و ” عبد الرحمن بن أنعم”، وما تشتمل عليه الرواية من نزعات صوفية وقيم أخلاقية، سوى أنها اتخذت طابعا روائيا في الميثيولوجيا، المتمثل في حركية شخصية الشيطان بين النبيين والصديقين، موجها وناصحا، حتى تحقق مجالا أوسع في الاعتبار.