كنا نتكلم أنا والصديق خالد مروان حول كتاب : إمرأة في برلين / مارتا هيلرز ، الذي تحدث عن مذكرات صحفية ألمانية روت فيه بعض بشاعات وحشية الجيش الروسي حينما إحتل ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وكيف قام الضباط والجنود الروسي بجرائم الإغتصاب الجماعي للنساء ، وذكرت همجية ماحصل وتطرقت الى حادث ضابط روسي بعد الإنتهاء من إغتصابها بصق على نفسه إحتقارا وشعورا بالعار !
طأطأ رأسه خالد وأخبرني بصوت متهدج انه شهد العديد من الأحداث المأساوية خلال تردده على العالم السفلي وإرتياده بيوت الدعارة في بغداد جعلته يبصق على نفسه عشرات .. فهو بعد ان خرج من السجن الذي زج فيه بتهمة التذمر من الحزب والثورة ، ومجيئه من البصرة الى بغداد حاملا أوراقا مزورة تشير الى تسريحه من الخدمة العسكرية وعمله سائق تاكسي ، ثم إنخرط في أجواء بارات بغداد ولعب القمار والجنس .. وسرد بعض تلك الحوادث :
(( مثلما أخبرتك سابقا كان بالنسبة لي الجنس لعبة ومخبأ ومخدر للنسيان ، وجدت نفسي منسجما مع طروحات فلسفة مابعد الحداثة في تحطيم الصرامة والجدية وإطلاق العنان للانغمار في عالم المتعة ، فقد تهاوت اليقينيات والقضايا الكبرى ، وإنكشف عجز العقل ، كانت مباديء مابعد الحداثة تترجم أزمتي الشخصية .. أزمة الإنسان الذي كسر أصنام الأوهام ووجد نفسه عاريا امام التفاهة وغياب المعنى ومطوقا بأسوار العدم )) .
(( لاتنسى أنا مجرد ناقد للحياة والبشر والوجود … ولست ملاكاً ، بل بشر يحمل نفس العيوب البشرية ، التي يرفضها لكن للأسف لايستطيع تجاوزها والخروج عن محدداته البشرية القهرية ، ولهذا السبب كنت منشطراً مابين بشريتي والقرف منها ، لاأعرف كيف يتبجح بعض الحمقى وإدعاء التصالح والإنسجام مع الذات وكأنها مفخرة ومنجز ، بينما هو يدين نفسه بتقبل عيوب وتفاهات الإنسان في حالة تصالحه مع الذات ، فالذات البشرية لايمكن ان يكون محتواها خيرا بالمطلق ، بل هي تحمل الأنانية والشر بنسب متفاوتة ))
سألت خالد ماذا جرى له في العالم السفلي ؟
(( جرت مخازي وسقوط متكرر إنغمست فيه كجزء من ممارسة التفاهات اليومية ، كنت أتردد على بيوت الدعارة ، وأجد مومسات ضحايا مطلقات وأرامل وهاربات ، وفتيات تعرضن للغدر بإسم الحب ، في أحد الأيام وقف طابور المومسات داخل وكر الدعارة أمامي ، كان مشهدا مهينا و مبتذلا لآدمية المرأة ، إخترت من بين المومسات فتاة صغيرة ملامحها وديعة فيها حزن على العكس من شراسة المومس التقليدية ، دفعت الأجور الى السمسارة العجوز ودخلنا الى الغرفة وقبل خلع ملابسي تحركت في داخلي مشاعر الشفقة فإخرجت مبلغا من المال وأعطته إياها هدية لها ، أخذت المال وإنحت على يدي قبلتها قائلة ببراءة : شكرا عمو .. صعقتني ، بل قتلتني بمخاطبتها لي بكلمة عمو التي نطقتها بصدق إنساني من بين خرابها ، تجمدتُ امامها وإنطفأت كل الشهوات الجنسية في داخلي ، سألتني عن سبب عدم خلعي لملابسي ، أخبرتها اني أكتفي بالنظر اليها فقط ، قبلتها من جبينها وخرجت ))
– هل حركت في نفسك مشاعر الأبوة كلمة عمو ؟
(( فيما بعد أجريت تحليل للحدث ، وواجهت نفسي وهي منغمسة في العالم السفلي ، وأدركت ان الدعارة حتى لو أبعدنا عنها أحكام الاديان في الحلال والحرام ، فهي إهانة للمرأة ، و سفالة وإنحطاط من الرجل بوصفه الطالب والفاعل .. كانت لحظة نطقها بكلمة عمو منحتني قيمة ومعنى إنساني وإحترام لا أستحقه ، فأنا قادم للمشاركة في إهانتها باحثا عن إشباع حاجاتي ، لو تعلم كم صرخت شاتما نفسي وباصقا عليها ، لو تعلم حجم الإكتئاب الذي أصابني ، لم أستطع النظر الى وجهي في المرآة جلست في غرفتي بدون عمل عدة أيام ، أصبحت أكره نفسي لدرجة الاشمئزاز !))
أنهى خالد مروان إعترافاته .. عندما يثق فيك شحص ما ويكشف لك عيوبه يجب ان تتحلى بالقيم الأخلاقية النبيلة ولاترتدي قناع الملائكة وتشن هجومك عليه وتطلق أحكامك العدوانية بحجة النصيحة والحرص .. أتركه يتكلم ولاتتصور نفسك أفضل منه وتشعر بالتعالي عليه ، وإن إستطعت ان تكون فارسا حقيقيا مع الناس بادر الى كشف أحد عيوبك الشخصية له كي لايشعر هو امامك بالنقص والذل لأنه أباح لك عن أحد عيوبه وتكونا متعادلين .
لزمت الصمت وأنا أشاهد دفن وجهه بين يديه وهو يتلوى أمامي من شعوره بالخزي والألم والورطة .. كان يرى ورطة الحياة في كل شيء ، و في كل مكان !