26 ديسمبر، 2024 7:46 م

موظف على الملاك النائم

موظف على الملاك النائم

كان جالساً في صالة المنزل حين سمع صوت فتح الباب الخارجي ودخول سيارة والده، الذي لم يتخلف أبدأً عن العودة من عمله في الساعة الثانية بعد الظهر لتناول الغداء مع أسرته وهو الطقس يحافظ عليه بإخلاص منقطع النظير.

رد تحية الاب الذي اعقبها بالسؤال الروتيني : هل أتصلوا ؟

أبدى ضجراً بالجواب على السؤال أكثر من أختناقه بالموضوع ذاته، فهو ينتظر منذ شهرين مكالمة تزف له البشرى بتعيينه موظفاً في مؤسسة حكومية رفيعة.

_ لم يتصل أحد، وأعتقد الموضوع كان مجاملة أكثر من كونه وعد واجب التنفيذ.

بان الامتعاض على وجه الاب وهو يؤكد بان السيد قاسم ليس من هذا النوع، وهو رجل يلتزم بكلمته، سكت قليلاً وفكر،  قبل أن يواصل دفاعه عن قاسم الذي لم يكن مجبراً لإبداء خدماته وهو يعرض عليه مساعدته في توظيف ولده.

حاول الشاب المتخرج من الجامعة قبل سنتين، ان يوضح لوالده ان هذا الزمان هو للمادة الصرفة والعلاقات المصلحية، وليس للمجاملات والوفاء لأصدقاء من زمن أنتهى الى غير رجعة .

أمتعض الاب بشكل أكبر من ذي قبل، غير ان تمكن من ضبط نغمة كلامه الهاديء، وعاد يسرد اصل القصة: كان قاسم صديق من أيام الخدمة العسكرية في الثمانينات حين جمعتهم الخنادق والصعاب ولحظات الموت التي تعاهدا فيها ان يبقوا على عهد الصداقة والاخوة طالما بقيا يتنفسان الهواء.

بعد أنتهاء الحرب عاد الأب الى ممارسة مهنته الاصلية في التوسط ببيع الأراضي والعقارات السكنية، بمنطقة البياع في بغداد، وأستمرت صداقته بقاسم وساعده في العثور على قطعة الارض التي كان يبحث عنها، بينما تولى الإشراف على مراحل مهمة من بناء المنزل، حين كان قاسم مسافراً لمصاحبة والدة الذي أجرى عملية قلب مفتوح في اوروبا.

شارك قاسم في حرب الكويت وسقط اسيراً في أيدي الأمريكان ، وبعدها أنقطعت أخباره بشكل كامل ولم تفلح كل المحاولات للحصول على طريقة للتواصل معه.

بعد أقل من عشرين عاماً كان الأب في مراجعة روتينية الى دائرة الضريبة في بغداد، لمتابعة التقديرات الخاصة بمحل الوساطة العقارية والتي بلغت أكثر من قيمة المحل بالاثاث الذي فيه، غير ان همومه أختفت بمجرد قراءة اسم المدير الجديد للدائرة، صديقه في الحرب والسلام.

كانت الساعة التي قضاها في المكتب الفخم غير كافية ابداً للتعبير عن اشتياقه لقاسم ولهفته لسماع أخباره، التي أوجزها من لحظة وصوله الى السويد مع وجبات الاسرى الذين تم نقلهم للعيش في الخارج، ليتصل هناك بمجاميع المعارضة السياسية وعمل في صفوفهم طيلة السنوات الماضية، حتى تم ترشيحه قبل اشهر للمنصب الذي يشغله حالياً، فيما همس له انه لا يعلم شيء عن الضرائب وانه يستعين بمساعده الذي أمضى 25 عاماً موظفاً متدرجاً في هذه المؤسسة وفي نفس البناية الحالية.

تكررت اللقاءات وامتدت إلى دعوات طعام في المنازل وسهرات في أماكن عامة ومكالمات تلفونية كانت تمتد أحيانا لأكثر من ساعة في الحديث عن مدى الأشياق الذي كان يشعر به كل منهما نحو الآخر، بينما برر عدم اتصاله حين كان في أوروبا بخوفه من المشاكل التي قد يجرها على صديق العمر؛ حين يتم اكتشاف أن لديه اتصالا مع شخص معارض للنظام.

تمنى قاسم على صديقة أن يكلفه بأي شي حتى ينفذه له، فهو الآن لديه علاقات ليس لها سقف محدد سواء في المؤسسات أو الوزارات أو حتى الرئاسات التي تدير شؤون البلد، ولم يكن لدى الصديق من طلب سوى مساعدته في تعيين ولده المتخرج حديثا من الجامعة.

ضحك قاسم وهو يتأمل في بساطة الطلب، لأنه كان يتخيل أن يسعى له في الحصول على شيء أكبر من هذا الأمر الذي لن يتعدى تنفيذهإجراء اتصال بالحاج في الرئاسة حتى تتم تلبيته بأقل من 24 ساعة، على أبعد تقدير.

تحدث الصديق عن اختلاف أساليب التعبير عن الامتنان أو الشكر أو المشاركة في الواجبات الاجتماعية، التي كانت كانت سابقا تتمثل في تقديم كيس من الأرز مع صفيحة من الدهن، أو خروف حي، أو ظرف ورقي يحتوي مبلغا من المال، وهي العادات التي درج عليها المجتمع العراقي، وتغيرت مؤخرا إلى المساعدة في تعيين أحد الأبناء أو الأقارب في المؤسسات الحكومية، والتي تمثل قمة الاعتزاز بالشخص والوفاء له.

أعترض قاسم على هذا التوصيف؛ لان الرسميات لا يصح أن تسود علاقتهما، وقبل أن يودع صديقه، ذكره بأن يكتب ولده طلبا بخط يده للتوظيف، على أن يجعل الجهة المخاطبة مفتوحة حتى يتسنى له الاختيار بين أفضل المؤسسات من حيث يسر الأعمال والراتب الجزيل.

انتهى من حديثه وهو يؤكد لابنه بانه لم يبادر بالطلب وان صديقة هو الذي تطوع في موضوع التوظيف، منوها الى ان زحمة المشاغل والسفر قد تكون هي التي شغلت قاسم عن تنفيذ وعده، وهو أمر وافقه عليه أبنه، بلا قناعة او في محاولة لاسترضاء والده بعد ان تحول النقاش الى تشكيك ودفاع.

بعد اربعة أيام على المناقشة، كان جالسا في محله يعرض على زبون، مجموعة من الشقق المتاحة للأيجار في شارع عشرين بمنطقة البياع، رن الهاتف وكان ابنه هو المتصل، وخمن بانه يريد الاستفسار مجددا عن الموضوع أياه، لكنه سمع منه البشرى: اتصلوا من اجل الوظيفة واخبروني ان أحضر في أي وقت الى الدائرة للمناقشة.

صمت للحظة، وهو يشاطر ابنه ذات الشكوك: كيف انتهى نفوذ قاسم الى وظيفة في هذه الدائرة؟

تقابلوا في المنزل على طعام الغداء، واخبره انه لن يتصل بقاسم للاستفسار منه عن طبيعة الوظيفة، ونصح ولده بالذهاب والاستماع ومعرفة طبيعة الوظيفة، وأستشارة اصدقائه العارفين بهذه الأمور.

استقبله موظف الإستعلامات بغير حماس، ولم يبال بالملف الورقي الذي عرضه، لأن وظيفته الوحيدة هي ان يمنعه من الدخول او يرشده الى الجهة التي يذهب اليها ان كان لديه موعد رسمي داخل المديرية.

طرق باب السكرتير الذي أبدى ترحيبا مبالغا به وأدخله بشكل مباشر الى غرفة المدير الذي كان مشغولا بمكالمة هاتفية، غير انه رحب به بابتسامة واشارة للجلوس على مقعد ضخم مجاور لمكتبه.

حين انتهى المدير من المحادثة تليفونياً مع شخص الحاج، رحب به مجدداً  ووفر عليه عناء التعريف بنفسه، فهو يعلم أنه مرسل من طرف أستاذ قاسم وأن عليه توصية خاصة، وتم تعيينه بشكل مباشر على الملاك الدائم وليس بصفة عد أو اجير يومي.

واصل حديثه، مستغلاً أضطراب الشاب: يُمكنك المباشرة اليوم في مهام وظيفتك أن رغبت، وأنت مخير بالعمل في المديرية أو أقسامها المنتشرة في كل منطقة تقريبا.

حاول أن يعرف ماذا سيعمل وما هي المهارات التي يحتاجها، والأهم من هذا كمْ سيقبض شهريا غير أنه لم يتحدث علنا بهذه النقطة الأخيرة.

تخيل أن المدير يخلع بدلته الرسمية وربطة العنق ويرتدي ثوب بسيط جدا، وهو يحدثه بصوت أشبه بالهمس: أن الوظيفة لن تتضمن أعمالا مرهقة أو مسؤوليات مقلقة؛ لأن المؤسسة أصلا عملها قليل ولا تحتاج إلى المزيد من الموظفين، وأنه وأمثاله يتم تعيينهم طمعا في رضا من يوصي بهم.

خرج من المؤسسة بعد أن تم تسجيل مباشرته كموظف على الملاك الدائم، وبدا عداد الراتب الشهري بالعمل، مع منحه فرصة التفكير ليومين من أجل اختيار المكان الذي يرغب بالعمل فيه.

في مساء اليوم نفسه قرر الذهاب وللمرة الأولى إلى “قهوتي” في منطقة الحارثية، وهو المكان الذي أعتذر مرارا من زملاء الدراسة المترفين عن السهر معهم فيه؛ لأنه يعلم غلاء أسعاره، ولا يريد أن يقوم غيره بدفع حسابه.

أسبتقبلوه  غير مصدقين بأن زميلهم المجتهد والمنقطع عنهم منذ 3 سنوات قد أقتنع أخيرا في دخول المكان والانضمام أليهم، وأمطروه بالأسئلة عن أحواله ووضعه الاجتماعي والمهني، ورد عليهم بمجاملات كثيرة لم تتضمن شيئا من حقيقة الوضع أو المشكلة التي جاء يطلب مشورتهم في حلها.

بعد ساعتين من الأحاديث الموزعة بين الماضي والحاضر، ومعرفته بأن الجالسين الخمسة يعملون في وزارات مختلفة، طرح مشكلته مترددا: هناك وظيفة متاحة في مديرية متواضعة، وأنا في حيرة من قبولها أو رفضها، وان كنت أميل إلى الخيار الثاني؛ لأنها ليست جذابة اجتماعيا ولا مغرية ماديا.

قدموا له التهاني بحصوله على درجة وظيفية في هذه الأوقات الصعبة، لكنهم ومع سعة اطلاعهم على خفايا الحياة الوظيفية، إلا أنهم لا يعرفون شيئا عن هذه المؤسسة، فهم يعملون في وزارات الدفاع والنفط والتعليم العالي، ويمكنهم تقديم النصائح فيها ويعددون المزايا والمنافع التي تعود على من يحالفه الحظ في الحصول على وظيفة في إي منها.

أخبره صديقه أنه لن يجد الحل سوى عند شخص واحد، زميلهم القديم حسن الشيخ أو ما يعرف حاليا بحسن علاقات، الذي يعمل في دائرة تسجيل الأملاك ” الطابو ” ويمتلك علاقات أخطبوطية، ومعرفة بمعظم مفاصل المؤسسات الحكومية، وقام بتأكيد كلامه بالاتصال به وأخباره أن هناك صديقا قديما بحاجة إلى نصيحة مستعجلة منه بخصوص وظيفة في البلديات.

يبدو أن حسن كان وفيا لأصدقائه القدامى، فقد حدد موعدا في اليوم التالي على الرغم من مشاغله التي لا تنتهي ولا تتحدد بأوقات العمل الرسمي، وكان جالسا في ذلك المطعم بانتظار الموظف الذي لم يقرر حتى الأن إن كان سيلتحق بتلك الوظيفة المتواضعة جدا.

استمع إليه مطولا بعد أن أخبر النادل أن ينتظره لبعض الوقت حتى يطلب وجبة الغداء، كان الموظف الجديد يستعرض له طموحاته في تحقيق شيء سريع لإدراك زملائه الذي توظفوا في الوزارات الرفيعة، وان عمله في هذه المؤسسة لن يضمن له سوى الإنفاق على نفسه فقط وبالكاد، وانه ليس المصير الذي كان يحلم به ويسعى الى تحقيقه.

بعد ان تأكد من الأنتهاء، طلب حسن من النادل ان يأتيهم بالغداء، وانتظر حتى وضع الطعام بينهما، وباشر بهوايته المحببة في الحديث الجاد اثناء الطعام، وبدا من نقطة ان الأحلام شيء والواقع شيء أخروهي النقطة التي هوت بمعنويات جليسة الى سابع ارض.

اختلطت مشاعر رفع المعنويات مع السخرية وهو يسمع كلام متناقض من حسن الذي أخبره بأن المدعو قاسم قدم له وظيفة الأحلام، وان تأخيره كان للبحث عن افضل فرصة له، وانه تركه الى شطارته لمعرفة خبايا هذه الوظيفة التي سماها بالكنز.

أعتدل حسن وشرب نصف كوب من الماء ايذانا بأنتهائه من الطعام، وأنتصب بهيئة من يوشك ان يلقي خطابا في غاية الأهمية والخطورة، حين أخبر الموظف الجديد، ان عدد الاغنياء في تلك المؤسسة يتنافس او يفوق أمثالهم في الكثير من الوزارات التي يذهب الاعتقاد الخاطيء الى انها الأكثر أهمية.

_كيف هذا؟

_ أولاً عليك ان تعلم انه ليس هناك وظيفة مرموقة واخرى متواضعة، وأنما هناك موظف يُحسن أداء عمله أو لنكن صريحين أكثر، يُتقن أستغلال وظيفته بالشكل الأمثل.

_ وثانياً ؟ سال متشككاً في إستقامة حسن علاقات.

_ المؤسسة التي تتردد في قبول وظيفتها، تتحكم بمجموعة ملفات في غاية الأهمية وان كان اغلب الناس ينظرون إليها بانها دائرة خدمية وغير مغرية للمنافسة على التوظيف ضمن كوادرها.

اضاف بانه حين علم بمشكلته من صديقهما الذي أتصل من مقهى الحارثية، قام بجمع معلومات سريعة جدا من صديق آخر بشأن هذه المؤسسة.

 _هل تعلم بان الموظف المسؤول عن مراقبة الأرصفة في أحد الأحياء المتواضعة، يحصل على 20 ألف دولار شهريا خالصة له من هذه الوظيفة، وذلك بعد استقطاع حصص رئيسه الأعلى، والاشخاص الذين قاموا بتعيينه في هذا المنصب.

_ أرصفة؟ 20 الف دولار؟ منصب!

_توقف عن الأستغراب، وفكر معي في وظيفة هذا الشخص، هو المسؤول عن المحافظة على الأرصفة شاغرة ومنع إشغالها من اي أستخدام سوى سير المارة عليها.

_ وهل هذه وظيفة مهمة ؟ ثم اين الأرصفة الشاغرة التي نستطيع السير عليها؟

_ ها أنت تجيب بنفسك على أسئلتك السابقة، كل من يضع شيئاً للبيع على الرصيف يدفع مقابلة لموظف البلدية، وباسعار متفاوته.

لاحظ إندهاشه المتكرر، فأكمل موضحاً : صاحب المطعم الذي يضع خمسة طاولات مع كراسيهن يدفع الف دولار شهرياً و القصاب الذي يضع منقلة شواء على الرصيف يدفع 500 دولار ، صاحب محل الأحذية الذي يعرض بضاعته خارج المحل يدفع 300 دولار، بائع اللبلبي يدفع 150 دولارا مقابل إيقاف عربته على الرصيف، هناك صاحب ماركيت ضخم، يدفع 2500 دولار شهريا؛ لأن مبيعات الرصيف أكثر أزدهارا من داخل المحالّ.

سأله في سذاجه متناهية: الكل يدفع ؟

 _ هناك موظف حدد تسعيرة خاصة بأماكن التسول، 50 دولارا تدفعها المتسولة التي تجلس على الرصيف المقابل لعيادات الأطباء والصيدليات والمحال الفخمة، و25 دولارا لمن تجلس في المناطق الأقل ازدحاما.

_ عذرا ولكن هل بدأت بالسخرية مني يا أستاذ حسن؟

_ أنا! أنت من يسخر مني منذ أن جلسنا وأنت تخبرني بأنك تفكر في رفض هذه الوظيفة.

_ والحلال والحرام؟ والمبادئ؟ والضمير الحي؟

ضحك بكل جوارحه، واعتدل لتفادي السقوط من الكرسي: أمنح ضميرك والأشياء الاخرى التي ذكرتها إجازة مفتوحة، وستجد كل وظيفة تدر عليك الذهب، وكل منصب يمكن أن يوصلك إلى عالم الأثرياء.

خرج من المطعم الفخم، شاكراً “حسن علاقات” على الدعوة الكريمة والنصائح الثمينة، فيما كان عقله مضطربا وعيناه تتسعان بقوة، وقبل أن يصل إلى المنزل كان قد أتخذ القرار النهائي: لن يذهب إلى المؤسسة ولن يزاول أي عمل حكومي في حياته.

أحدث المقالات

أحدث المقالات