18 ديسمبر، 2024 5:52 م

موت طبيب ومناضل …

موت طبيب ومناضل …

من وحي الذاكرة والوفاء .
من العاصمة بغداد تلقيت نبأ فاجع موت طبيب العيون والاستشاري الطبي الرفيق والصديق أيام النضال والتحدي والمعاني والاحلام المشتركة محمد نعمة دبش الزبيدي . غيبته جائحة كرونا اللعينة بعد أن عجزت أجهزة النظام الراحل من النيل منه والحد من نشاطاته في أروقة طبية الموصل وأزقة بغداد .

الدكتور محمد نعمة دبش الزبيدي مواليد بغداد/ مدينة الشعلة العام ١٩٦٣ خريج جامعة الموصل كلية الطب . التقيته في المرة الأولى ربيع عام ١٩٨٦ ، بعد أن ضاقت بي الظروف ذرعاً في العاصمة بغداد ، و سدت أمامي كل الابواب والأمكنة وود الاهل والأحبة ، وضقت ذرعاً وخوفاً من ليالي المبيت في مأرب النهضة في بغداد وفاركونات القطار بين بغداد والموصل من عيون الرقيب المبثوثة في كل زاوية .

في ظل هذيك الظروف كنت أتشبث عن أي نافذة أمل تقودني الى بر الأمان ، وفي الخلاص من قبضتهم ، حيث سبقوني ثمة رفاق وقعوا بين أياديهم . لا أفق لي الا بتقليب أوراقي القديمة وشحذ ذاكرتي لصداقات قديمة ورفاق منسين . أتصلت برقم التلفون الارضي في بيت الدكتور كريم عبد الرحمن دبش في منطقة الحرية الاولى . ومن الصدف هو الذي رفع سماعة الهاتف . أنا علي الجبلي هذا هو أسمي الحزبي في مطلع الثمانينات المعروف به بين بقايا الشيوعيين . تردد قليلاً قبل أن يرد عليه ، أنت وين الآن ؟. أنا في بغداد ، وأين حل بك الدهر والسنين . أنوي اللقاء بك وبأقرب فرصة ولا تتردد بلقائي أرجوك . حددنا موعداً بنفس اليوم في مأرب السيارات في مدينة الكاظمية . وتعانقنا بخوف وتردد وأخذنا الحديث مشياً على الاقدام من شوارع مدينة الكاظمية وعبرنا جسر الأئمة الى كورنيش الاعظمية ، مستعرضاً له فترة غيابي الطويلة والظروف المحيطه بها ووضعي الحالي ( الأمني والمعيشي ) ، وفي إستقراء سريع لتطورات الوضع السياسي في العراق وتداعيات ظروف الحرب العراقية / الإيرانية . كنت أمني على نفسي غفوة هادئه بعيدة عن الكوابيس والخوف ، لم أشعر شخصياً بأستعداده أن يخاطر بحياته وحياة أهله في أستقبالي ، لكنه قدم لي كنز في هذيك الظروف أن يدلني على مكان الدكتور محمد نعمه دبش الزبيدي ، الذي كان في المرحلة الثالثة بطبية الموصل ، في نفس الليلة أستلقيت القطار الذاهب ليلاً من بغداد الى مدينة الموصل ، حملت جسدي الهزيل والتعبان على أرضية فركون القطار المتشققه الى الصباح الباكر كجثة هامدة أثر التعب والارهاق من محنة الايام الماضية .

في الصباح الباكر ، كنت في المحطة العالمية بين فوضى المسافرين ، سلكت طريقاً فرعياً الى مقهى صغير يعمل فطور صباحي بسيط ، وبعد أن صحصحت قليلاً ، أجرت تكسي عمومي الى كلية الطب في جامعة الموصل ، صادفني وأيضاً من محض الصدف شاباً نحيلاً وطويلاً ويرتدي الزي الجامعي في أروقة الجامعة تبين فيما بعد صديقاً ورفيقاً وقريباً الى رفيقي محمد نعمه أنه طالب الطبية محمد شويخر من أهالي محافظة العمارة وحين سألته عن الدكتور محمد نعمه أستقبلني بابتسامه عريضة وهادئه ومطمئنه أنك وصلت أنه صديقي ونسكن بنفس الغرفة داخل القسم الداخلي الجامعي ، سبق في صيف عام ١٩٨٢ سكنا أنا والمرحوم عصام بنفس القسم ، عندما كنا ضيوفاً عند الدكتور عزيز إسماعيل طاهر .

أخذني الدكتور محمد شويخر راجعاً بي الى مبنى القسم الداخلي ، تاركاً حصته من الدرس ، وكما عرفت منه لاحقاً شعر حالاً بوضعي الحرج ، وجدنا الدكتور محمد نعمه مازال غارقاً في نومه ، جلسنا في البالكون نتحدث عن أمور عامه وصعوبات الدراسة ، وأنا قدمت نفسي له في اللحظة الأولى أني علي ومن أهالي مدينة الحلة وطالب في جامعة بغداد ، وعلى صدى صوت تلك الاحاديث ، أستيقظ دكتور محمد نعمه من نومه ، وقدمني له حالاً محمد شويخر ” عندك ضيف من بغداد ، وبادرته حالاً في القدوم له ومد يدي له أني علي أحمل لك سلاماً من دكتور كريم وعبد الرضا ، وبدون تردد عرف من أنا . وبعد ساعات معدودات ذهبنا باتجاه المدينة وجلسنا في أحدى مقاهيها ، وأطلعته على وضعي وصعوبة ظروفي وأحتمالات الخطر المحدقة بي ، وفي رد فعل سريع منه طمني وتعهد لي بتقديم كل المساعدات في الحفاظ على حياتي والدعم في نجاح مهمتي ، كان في يومها موقف كبير منه بظروف صعبة وخطيرة يمر بها العراق ومخاطر العمل السياسي المعارض ومن يأوي معارض سياسي ينص عليه القانون بالموت . بقيت لمدة عشرة أيام في الاقسام الداخلية وتعرفت جيداً على المدينة وأسواقها ومقاهيها وعلى بعض الطلبة والطالبات القريبين من تطلعاتنا ، ورغم الحذر في أوقات الدخول والخروج من الاقسام الداخلية ، كان هناك همس يدور حولي وطبيعة وجودي بين الطلبة البعثيين ، مما أقترح الدكتور محمد في الذهاب الى بغداد والاختفاء في بيتهم بمدينة الشعلة الواقع مقابيل تانكي الماء ، أستقبلوني أهله والده ووالدته الغفران لهم ورضيعاته الطالبات في جامعة بغداد باعتباري طبيب مع ولدهم محمد ، وتعرفت ايضا على أخيه الضابط منصور وعائلته لقد غمروني بالاهتمام والأمان مما سنحت لي مسافة أمان في التحرك والاتصالات بترتيب وضعي الجديد ، أي كلمات تختار من شكر وعرفان وهي تتعثر في أجندة الحياة وقوة تحدي تليق بتلك العائلة ومواقفها في ذلك الزمن الصعب ، واليوم حلت الفجيعة أن يرحل الدكتور محمد نعمه دبش الزبيدي عن عمر ناهز ٥٧ عاما تاركاً خمسة أبناء وتاريخ ومواقف مجيدة في سيرته المهنية والسياسية .

نم قرير العين .. سوف لن ولم ننساك ماحيينا .

تعازي الحاره الى زوجتك وأبنائك والى محبيك وأهلك ورفاقك .

باقة ورد على قبرك والى الاعالي أيها الطيب والجميل .