منذ بداية الوعي بضرورة النهضة الفكرية في مجتمعاتنا العربية والاسلامية،التي ابتدأت مع منتصف القرن التاسع عشر،ومازالت اسئلة رواد النهضة مطروحة أمامنا،لكننا لم نصل بعد الى إجابت سليمة وصحيحة،فالمجتمعات العربية الاسلامية بقيت على حالها، قلِقةً ،تعيش حالة صراعٍ في تحديد هويتها الحضارية،وشكل ومحتوى مسارها الوجودي،لتبقى على هذا الوضع الإشكالي، مُتأرجحة ،مابين الذهاب إلى الأمَام أو الرجوع إلى الخلف، لتبقى نتيجة ذلك،تعيش واقعا حضاريا ساكناً، هشَّاً، لم يتحرك بما يكفي،لكي يجعلنا نؤمن بأنه قد أجاب بشكل مُطمئنٍ على بعض تلك الاسئلة التي طرحها رواد النهضة،هذا إنْ لم يتراجع كثيرا،وإن كنّا قد توهمنا على أنه يحمل في كثير من مظاهره على اجابات واقعية تستجيب لمتغيرات الحياة .
لن يكون الشعب العراقي مسؤولاً عما وصلت وماستصل إليه حال البلاد،بسبب جهله وانسداد وعيه،نتيجةَ مايتلبسه من معتقدات طائفية، كما قد يعتقد البعض.
لأنَّ حاله هذا ليس بجديد،ولم يدفعه هذا التخلف ولاهذا الاختلاف الطائفي مابين السنة والشيعة خلال تاريخه الطويل الى مثل هذه المرحلة الدموية من التمزق والانهيار في بنية علاقاته الاجتماعية والانسانية.وعلى العكس من ذلك،كان دائما يتوق وينسجم الى حد كبير مع القوى التي تدعو إلى التغيير والتقدم في منظومة القيم والافكار .. إنّما يتحمل مسؤولية ذلك كل القوى السياسية،بما كشفته ممارساتها ومواقفها مع بعضها البعض،عن جُبنٍ وخسةٍ ودناءةٍ ورجعيةٍ،بما يتقاطع تماما مع ما
رفعته من شعارات وخطابات،ووتتحمل هي،ولوحدها،مسؤولية الخراب الذي وصلت إليه البلاد،وما أريقَ وماسيُراق مِن دمٍ في الايام القادمة.
الحرب الآن في العراق،وهكذا هو الحال في سوريا،حربٌ لاتاريخية،يتحرك قادتهاوأمرائها في الزمن المطلق،ولاصلة لها بالزمن الواقعي النسبي المتغير..هي حربٌ مرتبطةٌ باللأيدولوجية الطائفية،للأحزاب الدينية المتصارعة،أكثر مما هي مرتبطة بإنقسامات طبقية حادة أو احتجاجات تعكس حالة احباط اجتماعي،نتيجة ماوقع من بؤس وحرمان على هذه الفئة أو تلك،مع الإقرار بوجود هذا الحرمان بشكل فاضح،لكن هذه العوامل،التي تشكل بتوفّرها ارضية مادية وواقعية تكفي لقيام صراع اجتماعي وتكفي لقيام ثورات وانتفاضات.إلاّ انها في الحالة العراقية تحديداً،لم تشكل اسبابا جوهرية لِما نشهده من سقوط وانهيار للدولة،في معظم المدن التي يسكنها أغلبية سنية .
الصراع في حقيقته،كما يبدو لنا،يأخذ بعده الطائفي بشكل واضح جداً،لايمكن اخفاءه ،فالتقاطع الفكري مابين الاحزاب الشيعية التي تمسك بمفاتيح السلطة،ومابين التنظيمات السنية،هوالعامل الابرز والاكثر حضورا وفاعلية وخطورة فيما يجري من احتراب على ارض العراق .
المعركة الآن،وبعد سقوط الموصل بأيدي الجماعات المسلحة السنية،يريدها كلا الطرفين المتصارين،أن تكون استمراراً لصراع يعود تاريخه الى أكثر من 1400 عام ! .
صراعٌ ، بين اولئك الذين نادوا بشرعية الخلافة للأمام علي بن أبي طالب بعد موت النبي محمد،وبين الذين وقفوا إلى جانب خلافة ابي بكر الصديق وعمر وعثمان.
فالمالكي بنظر مَن يسانده من الأطراف السياسية الشيعية، يبدو بالنسبة لهم رمزا لكل من يناصر علي بن أبي طالب وال البيت وأحقيتهم في الخلافة والحكم،وقد دفع هو شخصياً بهذا الأتجاه الخطأ من التفسير للصراع القائم مع الجماعات الارهابية المتطرفة،عندما وصف في خطاباته ولأكثر من مرة،المعركة ضدهم على أنها:
أشبه بالمعركة مابين الحسين وجيش يزيد !!.لينتزع بذلك قسراً،هذه المعركة المنظورة،بكل اطرافها،من زمنها وميدانها الواقعي،بكل وضوحه،إلى زمنٍ مطلقٍ،غامض،بعيدٍ بكل تعقيداته والتباساته التي لم تهدأ ولم تُحسم حتى الآن،رغم مرور اكثر من 1400 عام عليها ! .
بطبيعة الحال عندما تُدفع الاوضاع بهذا الأتجاه الذي يهيّج العواطف ويدمي القلوب،لجموع الشيعة،عندها لايمكنهم إلاَّ الوقوف معه في نفس الخندق،حتى وإنْ كان طيلة فترة حكمه ــ التي امتدت لدورتين انتخابيتين امدها ثمانية اعوام ــ قد خذلهم فيها،ولم يفِ بوعوده،ولم يستجب لتحقيق أدنى إحتياجاتهم وأحلامهم في العيش الآدمي البسيط والكريم،بعد أن ذاقوا الحرمان طيلة عقود من الزمان! .
لذا كان لابد لجموع الطائفة أنْ تقف معه وهو يخوض حربه ضد التنظيمات المتطرفة “القاعدة وداعش” إضافة إلى بقية الأحزاب والتجمعات السياسية السنية حتى وإن كانت تحمل عناوين قومية وليست دينية أو طائفية..
هذا المسار الطائفي للمشهد السياسي،قد عكس هذه الصورة،بكل تعقيداتها واختناقاتها، طيلة الاعوام السابقة منذ العام 2003 .
جاء حدث سقوط مدينة الموصل بشكل كامل في 10 / 6 / 2014 بأيدي مجموعة من التنظيمات السنية المسلحة،أبرزها:(داعش،جيش الطريقة النقشبندية،حزب البعث،الحراك الشعبي،ثوار العشائر،تنظيم القاعدة)،ليكشف حقيقة الصراع الطائفي القائم في العراق،بشكل واضح،ولم يعد بالأمكان التغطية عليه بكل قساوته ومرارته رغم الشعارات والعبارات الوطنية الجوفاء التي طالما رددها الساسة والزعامات الدينية،دون أن يؤمنوا بها،فقط كسباً للوقت لأجل البقاء اطول فترة ممكنة في مناصبهم،بكل ماتخبئه من ثراء فاحش وأمتيازات،ولتمرير ماكانوا يخططون له في الخفاء ضد بعضهم البعض.
سلاح الميليشيات كان عُمقاً ستراتيجياً،طالما راهن عليه الطرفان الطائفيان المتصارعان،في اللحظة التي تصل فيها العلاقات السياسية بينهما،الى مرحلة من الانسداد والاحتدام،والفرق البسيط في ثنايا هذه الصورة المعتمة،يكمن في أن
الميليشيات الشيعية كانت تعمل علناً،ولا تخفي انشطتها،ولا الأدوار التي تلعبها هنا وهناك،سواء داخل العراق أو خارجه،لتأكيد:قوتها ووجودها وإنحيازها وهويتها الطائفية،كما يبدو ذلك واضحا في الدور الكبيروالواسع الذي لعبته ومازالت تلعبه في سوريا في مجريات الصراع الدموي الدائر هناك،لمساندة نظام بشار الأسد،وإنْ تم تسويق هذا الدور للرأي العام ،تحت ذريعة الدفاع عن مرقد السيدة زينب .
بينما نجد على الجانب الآخر،الميلشيات السنية، ماكانت تستطيع أن تعلن عن نفسها بشكل واضح على الارض العراقية أو خارجها،ولاأن تستعرض قواتها وامكاناتها بشكل علني،مثل قرينتها الميليشيات الشيعية،وبقيت هيكلية تنظيماتها وزعاماتها تلفها الاسراروالغموض،إلاّ أن هذا الأمر لاينطبق على التنظيمين الدوليين”القاعدة وداعش” انما يقتصر ذلك على التنظيمات العراقية المحلية،التي لايمكن معرفتها بشكل واضح،وليس بالإمكان حصر عدد افرادها،بنفس الوقت،هنالك عدد من تلك التنظيمات،ذاع صيتها خلال مراحل معينة من مراحل الصراع السياسي في العراق،خلال الاعوام العشرة الماضية،كما هو الحال مع الجيش الاسلامي،وانصار السنة،وكتائب ثورة العشرين،وغيرها من التنظيمات التي لايتعدى عدد افرادها العشرات .
ما وصل إليه الصراع على السلطة في العراق من خطورة شديدة بعد ان اصبحت الموصل،كاملة تحت سلطة تنظيمات مسلحة سنية،ينذر بلا أدنى شك بنشوب حرب دموية طويلةالآمد،ستنهك البلاد،أكثر مما انهكت سوريا،وستقضي تماماعلى آخر أمل بالتعايش،بعد أن يكون أمراء الحرب جميعا قد أنجزوا مهمتهم وأطلقوا رصاصة الرحمة على جسد البلاد،ليتمزق إلى اشلاءــ اقاليم ودويلات صغيرة ــ لايمكن جمعها مرة أخرى تحت خيمة وطن واحد .
فهل نحن دخلنا ، في لحظةِ موتِ الوطن أمْ موت الأمل ؟