23 ديسمبر، 2024 9:53 ص

مواقف خالدة… جون اللؤلؤة السوداء

مواقف خالدة… جون اللؤلؤة السوداء

الحرية ان تعيش بكرامة وإن كنت عبدا أسودا، والعبودية أن تعيش بتعاسة وإن كنت حرا أبيضا.هذا معنى الحرية عند جون الأسود، ومعنى التعاسة عند عمر بن سعد الأبيض، عندما وقف الأول مع الحق المتمثل بالإمام الحسين، بينما اصطف الثاني مع باطل يزيد وحاشيته المنحرفة.
جَون بن حَوِيّ، ذلك العبد الذي اشتراه الامام علي بن أبي طالب ثمّ وَهَبه لأبي ذرّ الغِفاريّ، وبعد وفاته رجع جَون إلى الامام الحسن بن علي، ثمّ انضمّ إلى الامام الحسين عليه السّلام وصَحِبَه في سفره إلى مكّة ثمّ إلى العراق.
تقلب في أحضان طاهرة مباركة واقتبس منها النخوة والشهامة والوفاء والإباء، کان من شهداء كربلاء، وكان عبداً أسودا، منعه الحسين عن القتال في يوم عاشوراء، ولكنه قال للإمام: والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.
نعم انه افصح عن كنهه وذاته الأصيلة، وحقا انه اللؤلؤة السوداء والكنز الثمين، الذي اضحى كاللجين بياضا واللؤلؤ بريقا والمسك عطرا حينما استشهد ووقف عليه الحسين، داعيا له بالخير.مهما كتبنا عن موقف جون فإننا لا نفي ولو بمقدار انملة عما كان يعتلج في صدره من حب وهيام لإمامه ومقتداه، فهو بذلك قد اثبت للجميع بأنه لؤلؤة بالقوة قبل استشهاده ولؤلؤة بالفعل بعد استشهاده وشموله بنفحات الخير الحسينية، حيث ان الجوهر حينما يكون أصيلا لا يضره لون أو نسب أو ما شابه ذلك، بل أنه يكون تحت طائلة عدالة التقوى في التفاضل، وهو الذي حازها ودخلها من أوسع أبوابها.  
التحق جون مولى أبي ذرّ بالركب الحسينيّ، وسمع من الإمام الحسين عليه السّلام إذْنَين: الأوّل ـ عامّ للأصحاب بالانصراف: انطلِقُوا جميعاً في حِلّ، ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل قد غَشِيَكم فآتَّخِذوه جَمَلاً، فأبَوا جميعاً.. مُقْبِلين على الشهادة.والإذْن الثانيّ ـ خاصّ لبعض الأصحاب بالانصراف.. كان منهم جَون، حيث قال له الإمام الحسين عليه السّلام: أنت في إذْنٍ منّي، فإنّما تَبِعْتَنا طلباً للعافية، فلا تَبْتَلِ بطريقنا.
فماذا أجاب جون إمامه؟ قال له: يا ابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحَسُ قِصاعَكم وفي الشدّة أخذلكم؟! واللهِ إنّ ريحي لَنتِن، وإنّ حَسَبي لَلئيم، ولوني لأسوَد، فتَنَفّسْ علَيّ بالجنّة فتطيبَ ريحي، ويَشرُفَ حَسَبي، ويَبيضَّ وجهي، لا واللهِ لا أُفارقُكم حتّى يختلطَ هذا الدمُ الأسود مع دمائكم.
لماذا أصر الأعداء على قتال ابن بنت الرسول؟! ولماذا لم ينتهز جون الفرصة للنجاة وهو يعلم ان البقاء مع الامام الحسين يعني الموت الزئام؟! ببساطة أقول إنهم متخلفون ثقافيا وحضاريا وعقائديا، صحيح أن لهم آذان ولكنهم لا يسمعون بها، وأعين لا يبصرون بها، وقلوب لا يسترشدون بها، أما جون فإنه يمتلك تلك الثقافة الحسينية الشاخصة التي جعلته يسير مطمئنا في وضح النهار تاركا خلفه مخاوف ودهاليز وأهوال السرى.
ضرب لنا جون بموقفه هذا أروع الأمثلة في الوفاء والفداء والإباء والاستقامة، هنيئا لهذا الايمان العامر والقلب الصابر والذكاء الباهر لما انتخبه من ملازمة تنجيه من المخاطر وتوصله بسهولة الى جنة فيها من النعم والذخائر.أخذ أصحاب الحسين عليه السّلام يبرزون زرافات ووحدانا، وخلال هذا برز جون يستأذن الحسين عليه السّلام، فأذِن له، فحمَلَ جون وهو يرتجز ويقول:
كيف تَرى الفُجّارُ ضَربَ الأسْودِ*** بالمـشـرفـيِّ القـاطعِ المُـهنَّدِ
أحمـي الخيـارَ مِن بنـي محمّدِ*** أذُبُّ عنـهم بـاللـسـانِ واليـدِ
أرجو بذاك الفـوزَ عندَ المـوردِ*** مِـن الإلهِ الـواحدِ المـوحَّدِ
انه ادرك معنى الحرية وهو في أوج العبودية، فالحرية هي الدفاع عن الحق والرسالة بكل ما أوتي من قوة، والموت دفاعا عن التوحيد، هو الفوز الحقيقي الذي لم يدركه الكثير من الأحرار لفظا، ولكنه أدركه جون معنى وحالة متغلغلة في ذاته الحرة الكريمة.فقَتَل جونٌ خمسةً وعشرين رجلاً من الأعداء، حتّى تعطّفوا عليه فقتلوه رحمه الله، فجاءه الإمام الحسين عليه السّلام ووقف عليه قائلاً: «اللهمّ بَيِّضْ وجهَه، وطَيِّبْ ريحَه، واحشُرْه مع محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، وعَرِّفْ بينه وبين آل محمّد عليهم السّلام».فكان قبره ملاذا للأحرار مع بقية الأنصار عند رجل الامام الحسين سيد الأطهار، ويكفيه فخرا انه وبعد استشهاده ذكره الامام المهدي في زيارة الناحية المقدسة: «اَلسَّلَامُ عَلَى جَوْنٍ مَوْلَى أَبِي‌ ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ».فالذي يسلم عليه الإمام المعصوم الغائب الذي سيظهر في اخر الزمان ليملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، هو في الحقيقة وصل الى قمة الايمان وايمان القمة، كيف لا وهو قد بذل كل ما يرغب اليه العبيد وغيرهم من راحة ودعة ومأكل ومشرب ومسكن الى ما هو خير وأبقى، ولكنه للمؤمنين حصرا وليس لعامة الناس.