متصدق هو، كريم النفس ، لين الطبع ، طيب القلب ، منفرج الأسارير، أعرفه شخصيا منذ مدة ليست بالقصيرة الا أن ضيقا ماديا شديدا ألمَّ به جعلني في حيرة من أمري اذ كيف لمتصدق مثله لا يمن ولا يرائي ولاتعلم يمينه ما تنفق شماله أن يقع بمثل هذا الضنك المادي المفاجئ والله تعالى يقول في الحديث القدسي : ” أنفق يا إبن آدم أنفق عليك”، مع علمي اليقيني بأن الباري عز وجل أكرم الأكرمين ، وأن الإختبارات والإمتحانات ومنها نقص الأموال والأنفس والثمرات ما تزال بالمؤمنين حتى تطهرهم من جميع الذنوب والخطايا لتنقيهم منها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ،الا أنني وبرغم علمي بذلك لم أزل متأسفا وحزينا لما أحاط بهذا الرجل الموسر الكريم من ضيق مادي مزعج لم يعتد عليه من ذي قبل ، فسألته اليوم لما أعلمه عنه من رجاحة عقل وسرعة بديهة وسعة أفق ، وتحديدا قبل صلاة الظهر ” كيف لمتصدق مثلك أن يمر بما تمر به وأنا شاهد عيان على جودك وكرمك برغم حرصك على أن لا يعلم بذلك أحد قط يصدق فيك قول الشاعر :
تراهُ إذا ما جئْتَه مُتَهَلِّلا … كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائلُهْ
واذا به يدهشني بإجابات أروع من صدقاته قبل فاقته المفاجئة الوقتية حين قال لي وبالحرف ” صديقي الحبيب كل ما قلته صحيح الى حد ما ، الا أنني كنت أتصدق في أبواب محددة ولفئات معينة وفاتني الكثير من الأبواب والفئات الأخرى والتي قد تكون أحوج ما يكون للصدقة أكثر ممن نتصدق عليهم ، أبواب خير ما كنت لأطرقها – غفلة ، سهوا ، تقصيرا ، خطأ ، عدم قناعة ، بخلا ، كسلا – ولكي أتعلم الدرس جيدا وأعيه وأنتبه لتقصيري كان لابد من – ضيق مادي – يعصف بي ليلفت عنايتي ويوجه أنظاري اليها جيدا ويخرجني من الأساليب والطرق التقليدية للصدقة !
– أنا لم أدفع قبلا لمستأجر بدل إيجاره ولو لشهر أو شهرين ولم يكن ذلك في حساباتي الا أنني اليوم وبعد أن سكنت دارا مستأجرة مثله وأدركت حجم المعاناة الهائلة التي يعانيها عاهدت نفس على فعل ذلك مستقبلا بعد الخروج من الأزمة قريبا بإذن الله تعالى !
– لم أدفع لعائلة مهجرة تكاليف المولدة الأهلية بغياب الكهرباء الوطنية ولو لشهر أو شهرين من العام ليحولوا تكاليفها الى مصارف أخرى هم بأمس الحاجة لها الا انني اليوم تنبهت لذلك مليا !
– لم أقرض معسرا قرضة حسنة ثم أمهله أطول فترة ممكنة للسداد ومن ثم أعلمه بأنني قد أسقطت عنه دينه حسبة لله متخيرا مناسبة سعيدة ترفع عنه الحرج كأن يكون أول يوم من رمضان ، يوم عيد الفطر ، عيد الأضحى ، ليلة القدر ، عشرة أيام من ذي الحجة ، التاسع والعاشر من المحرم !
– لم يسبق لي أن دخلت على محل لبيع المواد الغذائية لأطلب منه فضلا لا أمرا أن يفتح لي سجل الديون ويعلمني بأكثر العوائل المتعففة دينا من المسجلين عنده لأسددها بدلا منهم ولا أغادرالمحل حتى أضمن غلق صفحة الديون والمشتريات المتراكمة شهريا بحقهم !
– لم أشتر الدفاتر والقرطاسية والحقائب المدرسية لأيتام وأسلمها إياهم لأفرح بها قلوبهم قبيل بدء العام الدراسي الجديد من كل عام !
– لم أشتر ملابس العيد الجديدة لأطفال فقراء قبيل الفطر والأضحى..ملابس الصيف والشتاء ..لم أذهب شهريا لتفقد أحوال النازحين في مخيماتهم صيفا أو شتاء للوقوف على ما يحتاجونه عن كثب لأسد ولو جزء منها !
– لم أسهم ولو بجزء من تكاليف عملية جراحية مستعجلة لمسكين لايمتلك من حطام الدنيا الفانية شروى نقير .. لم أسهم بشراء دواء باهظ الكلفة لمريض معدم وفقا لوصفة الطبيب المختص… لم أشارك في منح شاب متعفف يهم بالزواج ليحصن نفسه غرفة نوم ، أثاثا منزليا، ثلاجة ، غسالة ، طباخا ، أعينه بمبلغ من المال على شكل هدية .. لم أهد لعاطل ستوتة ، تك تك ، بوكس المونيوم متكامل بجميع تجهيزاته ومعداته لتجهيزالشاي وبيعه، عربة خشبية متنقلة لبيع الحلويات ، الخضروات ، البقوليات ، الكرزات يعتاش وأهله منها !
– لم أشتر كرسيا متحركا لمشلول معدم عله يصل بمساعدتها رحمه قربة لله ..طرفا اصطناعيا لمبتور قدم مع عكاز ليسعى بها الى بيوت الله ..سماعة خلف الأذن لضعبف سمع عاطل عن العمل ليسمع بها كلام الله .. حاسبة شخصية لعامل لهذا الدين لايمتلك ثمنها لأشاركه أجر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة في سبيل الله .. لم أتكفل براتب داعية ، طالب علم ، معلم قرآن ، لوجه الله …!
– لم أجهز المشردين ، سكنة العشوائيات ، سكنة المخيمات ، متظاهري الساحات والميادين السلميين بالفرش والأغطية والمدافئ والخيام فضلا عن تزويدهم بالماء والدواء والوقود والطعام !
أين كنت من كل هذا ؟ حقيقة لا أدري!
وكان لابد لعصف ذهني ووجداني كبير لن يتحقق الا بضيق مالي مفاجئ يحيط بالموسر الكريم من كل جانب مؤقتا ليصحو بعدها ويتفتق ذهنه على طرائق جديدة للخير ويبادر بكرم مدروس ومبرمج أكثرألقا وأعم نفعا وأكبر أجرا من سابقه فورالخروج من أزمته ولسانه لايفتأ يردد قول الباري عز وجل : ” رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه ” وإنما بالشكر والحمد تدوم النعم ، وبالصبر والإجتهاد والمثابرة وكثرة الاستغفار والصلاة على المصطفى المختار تتحسن الأحوال وتزول النقم ، صلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم خير العرب والعجم وخيرمن مشي يوما على قدم :
صلى عليك الله ياعلم الهدى …ماحن مشتاق وسار دليل