منذ أشهر والحكومة ومجلس النواب منشغلان بموازنة عام (2016)، ومما لاشك فيه أن انخفاض أسعار النفط أربك الموازنة التي تعتمد بشكل شبه كلي على العائدات النفطية، فسعر برميل النفط هبط من حوالي (120) دولاراً إلى ما دون الـ(40) دولاراً.
وفي ظل هذه الأجواء برزت مشكلتان كبريان: الاولى هي عدم التوصل إلى حلّ للخلافات النفطية بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وهذا انعكس سلباً على الموازنة التي قدرت النفط المصدر من البلاد، وبضمنه نفط الإقليم ومحافظة كركوك، بـ(3.6) مليون برميل يومياً، ومع أن العائدات المحتملة لا تغطي النفقات التشغيلية والاستثمارية فإن استقطاع (600) ألف برميل المقدر في الموازنة العامة من نفط إقليم كردستان سيزيد عجز الموازنة الذي قدر بنحو (29) مليار دينار عراقي.
وبسبب التدني الكبير في أسعار النفط برزت مشكلة ثانية تتعلق بالاتفاقات النفطية الحالية التي تمت وفق (عقود الخدمة) إذ ذهب بعضهم إلى ضرورة العودة إلى نظام المشاركة وطرح هذا الأمر في مجلس الوزراء، ومع تفضيل كثيرين لعقود المشاركة، إلا أن عدداً كبيراً من خبراء النفط والاقتصاد يعتقدون أن عقود المشاركة لا تحقق المصالح العراقية. وفي ظننا أنهم مصيبون في رأيهم هذا لأن الحقول العراقية في مجملها حقول كبيرة وسهلة التطوير وتصلح لها عقود الخدمة، في حين يمكن منح عقود المشاركة للحقول الصغيرة. ومما لا شك فيه فأن أيّ توجه في ظروف إعداد الموازنة سيربك الوضع بشكل كبير.
على الجانب الآخر، فأن الواردات في الموازنة خارج الإطار النفطي تم تقديرها بحوالي (12) ترليون دينار، وهو رقم مبالغ فيه كثيراً بحسب الخبراء. فقد بني هذا الرقم على الواردات المتحققة من التعرفة الكمركية الجديد التي لم تطبق لغاية الآن فضلاً عن عدم وجود رغبة جادة في تطبيقها لأسباب مختلفة.
نعتقد أنه في نهاية الامر سيقر مجلس النواب الموازنة بعجز كبير، وسيكون طابعها العام تشغيلياً لشحة الموارد وستكون مكبلة بالديون لصندوق النقد الدولي الذي سيقرض الحكومة مبلغ (1.2) مليار دولار بفوائد مرتفعة، ومن المحتمل أن
يبادر البنك الدولي بإقراض الحكومة أيضاً بمبلغ (2) مليار دولار بحسب ما يتردد في وسائل الإعلام. إلا أن هاتين المؤسستين (الصندوق والبنك الدولييتن) اللذين خبرتهما شعوب العالم الثالث تعمدان دوماً إلى فرض شروط مجحفة عن طريق تقديم النصح للحكومات المقترضة بفرض الضرائب والالتفاف على مكتسبات المواطنين في الرواتب والحقوق التقاعدية والتدخل في السياسيات الاقتصادية فضلاً عن الفوائد المرتفعة التي تفرضها على القروض.
إن المشكلة الاقتصادية القائمة حالياً لا تنحصر في هبوط أسعار النفط فقط، بل في السياسات الخاطئة التي جعلت البلاد تعتمد بشكل أساسي على الواردات النفطية، وفي تبديد الثروة وعدم توجيهها لبناء قاعدة اقتصادية متينة. وهكذا فأن تجارب الشعوب تؤكد أن الاقتصاد الريعي يخلق أنظمة فاسدة تتعامل مع ثروة البلاد وكأنها ملك لها تتصرف بها كيفما تشاء.
إن النهج الذي اتبع منذ تغيير النظام السابق يقوم على تسخير امكانات البلاد المادية والبشرية من أجل توسيع نفوذ الأحزاب الحاكمة والبقاء في السلطة. وهذا النهج أدى إلى تضخيم جهاز الدولة حيث تجاوز عدد العاملين الحكوميين والمتقاعدين الـ(6) ملايين. وقد رافق ذلك تخطي القوانين والقواعد العامة والانفاق المنفلت وضعف الكفاءة في الميادين (المدنية والعسكرية)، وهو أحد اسباب الفساد المتغلغل في مفاصل الدولة الذي أصبحت البلاد بسببه تنافس الصومال في احتلال المركز الأول بحجم الفساد، إلى الدرجة التي أصبح فيها لدينا وزراء هاربون من العدالة بسبب تهم الفساد التي تلاحقهم!!
كما أن سوء الإدارة وانعدام الكفاءة وتغليب الدوافع الطائفية والحزبية على المصالح الوطنية ساهم في جعل ربع سكان البلاد (حوالي 25%) يعيشون تحت خط الفقر، وهي الأسباب نفسها التي سمحت لعصابات “داعش” باحتلال الموصل والأنبار وأجزاء من صلاح الدين وديالى الذي أدى إلى نزوح (3.5) مليون من سكان هذه المحافظات.
أن هذه السياسات الخاطئة مجتمعة أضعفت البلاد في مواجهة الأطماع الخارجية، فقد فوجئ أبناء شعبنا قبل أيام بدخول قوات تركية إلى الأراضي العراقية بدعوى مساعدة أبناء الموصل على تحرير محافظتهم من أيدي “داعش”، وبهذا فقد انتهكت الحكومة التركية والمتعاونون معها حرمة الأراضي العراقية والقانون الدولي متجاهلة أن الموصل مدينة عراقية غالية على قلوب العراقيين جميعاً وأن الشعب العراقي هو المسؤول الوحيد عن تحريرها وليس تركيا التي لديها أطماع
تاريخية في مدينة الموصل ابتدأت منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي. كما أن تركيا هي الداعم الأساسي لـ”داعش” في سوريا، ومن يدعم تنظيماً أرهابياً متوحشاً في سوريا لا يمكنه محاربته في العراق.
لقد آن الأوان أن تبادر الحكومة العراقية بطرد القوات التركية من الموصل، بل إلغاء القواعد التركية داخل الأراضي العراقية التي وافق النظام السابق على إقامتها في عام 1995 بحجة مطادرة أعضاء حزب العمال الكردستاني (بكه كه)، وهذه القواعد هي:
1ـ قاعدة عسكرية في بامرني شمال محافظة دهوك منذ عام 1997.
2ـ غير يلوك الواقعة شمال االعمادية.
3ـ كا نيماسي الواقعة شمال دهوك.
4ـ سير سي الواقعة شمال زاخو.
لقد أكدت تجربة السنوات المنصرمة أن الخلل الأساسي يكمن في العملية السياسية القائمة على المحاصصة والطائفية السياسية التي حولت العراق إلى مكونات وأضعفت الوطنية العراقية التي توحد العراقيين ومكنت “داعش” من احتلال أراضينا بسبب أجهزتها الفاسدة وأخضعت جيشنا لتقسيمها الطائفي الذي أضعف قواتنا المسلحة ومكن القوى الإرهابية من احتلال أجزاء غالية من بلادنا.
وفي النهاية، لابد لنا من التأكيد أن البلاد لا يمكنها أن تنهض إلا بالتخلي عن الطائفية والمحاصصة والقيام بمصالحة حقيقية وبناء الدولة المدنية الديمقراطية فهي الكفيلة بتوحيد أبناء العراق والحفاظ على البلاد من كيد الطامعين.
* الأمين العام للحركة الاشتراكية العربية