في عالم من الإرهاب تسود فيه عمليات فردية غير متوقعة تقوم أساساً على مجازفين مستعدين أو راغبين في الموت لا يبدو ثمة مجال للمواجهة إلا أن نفكر في عالم يسوده حب الحياة وتقديرها، فالمواجهة مع الإرهاب أصبحت هي المواجهة بين حب الحياة وتقديرها وبين حب الموت، وبين الكراهية والمحبة، وبين ثقافة الحياة قبل الموت وثقافة الحياة بعد الموت! وفي ذلك فإننا بحاجة أن نبتدئ بالنهايات ونعود منطلقين منها خطوة خطوة لنصل إلى الحال القائمة اليوم وفي غد القريب!
والحال أن النظر في مبتدأ المسألة كما هي اليوم يظهر ببداهة أن معظم مؤسساتنا القائمة المعول عليها في المواجهة، كالأجهزة الأمنية والعسكرية والمدارس والجامعات والمؤسسات الاجتماعية والثقافية تبدو عاجزة عن المواجهة، بل غير قادرة على التفكير في مواجهة شخص غير مــعروف لها ابتداء يريد أن يقتل نفسه! وأظن أن أكثر ما يساعدنا أو يقودنا في المواجهة اقتباس المعرفة والخبرات المتشكلة في مواجهة ومعالجة الاكتئاب والانتحار! لكن التفكير في هذه الظاهرة يقود إلى الإحباط، إذ إن عدد المنتحرين في العالم يساوي مليون شخص سنوياً من بينهم حوالى عشرين ألف عربي! لكن يظل السؤال المفتاحي في التفكير والبحث عن إجابة هو كيف تختفي أو تنحسر الأفكار والمعتقدات والمشـــاعر المؤسسة للعنف والكراهية؟ ليس لدينا مجال للتــفكير ســوى هذا السؤال، بما في ذلك من مواجهة مع الذات أن ما لدينا من مؤسسات وبرامج واستراتيجيات لم تعد تجدي نفعاً، فهي في فلسفتها وروايتها المنشئة تنتمي إلى المرحلة الهرمية الآفلة، عندما كانت قيادة الهرم باحتكارها للمطابع والمدارس والصحافة والحدود تقرر للناس ماذا يعرفون وماذا لا يعرفون، لكن الناس يعرفون اليوم بلا استئذان كل ما يريدون معرفته ومن أي مصدر في العالم، وليس الحل بالطبع أن تعود الدول والمجتمعات إلى ما قبل الشبك أو التحول إلى نموذج كوريا الشمالية. لم يعد من حليف في المواجهة سوى الأفراد والأسر.
المواجهة مع التطرف والكراهية هي معركة المـــجتمعات والأفراد الذين لم يكونوا في الحســـبان عند بناء استراتيجيات التعليم والتنــــــشئة والإعلام والثقافة، واليوم يجب أن تعود السلطات إلى المدن والمجتمعات التي هيمنت عليها وأضعفت مؤسساتها وأدواتها ومواردها المستقلة، مواجهة الإرهاب إذن هي مجتــمعات متماسكة ذات منعة فكرية وثقافية وقدرة اقتصادية واجتماعية مستقلة، قادرة على العمل بنفسها ولنفسها، أي أنها ذات ولاية على المرافق والمؤسسات والثقافة والعلاقات التي تمكنها من الشراكة مع السلطة.
مؤكد أيضاً أن التطرف بما هو أفكار ومعتقدات ومشاعر تؤسس للعنف والإرهاب لم ينحسر بعد إن لم يزد؛ ما يعني بالضرورة أن الاستراتيجيات الثقافية والاجتماعية القائمة إن لم تكن تساعد على التطرف فإنها فاشلة في مواجهته، وما من ضمان أو مؤشرات ترجح ألا تحمل الأجيال الأفكار المتطرفة وتنضم إلى الجماعات المتشددة والإرهابية، أو أن تنتج ذئاباً متفردة متهورة! كيف تنشأ البيئة الحاضنة للاعتدال والرافضة للكراهية والتطرف؟ الإجابة ببساطة ووضوح هي المنعة الفكرية والاجتماعية، لكنها أيضاً ليست إجابة، فالمناعة هي الهدف العملي الذي تسعى إليه الدول والمجتمعات، وفي ذلك فإن المواجهة العملية والحقيقية مع التطرف ليست استراتيجية خاصة مستقلة عن عمليات الإصلاح والتنمية في سياقها العام والشامل. يمكن بالطبع أن نلاحظ ونقيم السياسات التعليمية والاقتصادية والتنموية والثقافية وعلاقتها بنشوء التطرف أو مواجهته، لكن لا يمكن المواجهة من غير سياسات شاملة للتنمية والإصلاح، وتمكين المجتمعات من المشاركة الفاعلة مع الدولة وأن تكون لها مصالحها المستقلة في هذه المواجهة مع التطرف.
نقلا عن الحياة