23 ديسمبر، 2024 1:12 ص

مهدي عيسى الصقر في روايته (الشاهدة والزنجي)

مهدي عيسى الصقر في روايته (الشاهدة والزنجي)

النص والكمون النصي / البحث عن الوجه المفقود
الورقة المشاركة أحتفاءً بالطبعة الجديدة لرواية (الشاهدة والزنجي) على نفقة المكتبة الأهلية في البصرة / 8 شباط 2020 في مبنى اتحاد أدباء البصرة
ورقتي تؤكد أكتشافا نقديا متواضعا، اجترحته قراءاتي المتكررة لقصص وروايات مهدي عيسى الصقر،أعني بذلك مفهوم:
(النص والكمون النصي)..
(*)
كل القصص القصيرة التي انتجها مهدي عيسى الصقر – طيّب الله ثراه -يمكن أعتبارها من جانب معين : تدريبات جمالية دؤوبة في نحت الكلمات والشخصيات والأمكنة والأحداث .. وفي طية التدريبات كمنت روايات متميزة، ستفقس بيوضها بعد ثلث قرن من وجع الكتابة ومسراتها، وفي الطية نفسها،تعايشت شخصيات قصصه القصيرة وتمردت على الحيز القصصي، باحثة الفضاءات الروائية والبينة على ما نقول هي (مجرمون طيبون) مجموعته القصصية الأولى/ 1954 في هذه النصوص القصصي تكمن نصوص رواياته التي ستطلق أجنحتها بعد أكثر من ثلث قرن،فقد عرف الصقر كيف يتمكن الانتقال من التركيم القصصي إلى فتنة سردٍ أكثر سعة ومَن يطلع على (مجرمون طيبون) سيرى ثمة قصة قصيرة، في المجموعة القصصية ،تحولت إلى رواية بسعة 497 صفحة من الحجم الكبير، عنوانها(رياح شرقية رياح غربية )، مكتوبة في بغداد حزيران 1986- آب 1989 وسيتم نشرها في مصر 1998
هذا التعالق بين النص والكمون النصي، ينقسم إلى قسمين
الكمون الروائي أعني كمون النص الروائي في النص القصصي وتعليق نطفة الرواية في رحم القصة القصيرة، كما جرى في رواية (رياح غربية رياح شرقية )
وهناك كمونات داخل النص الروائي،أعني أن الصقر في رواياته، يجعل الأحداث الرئيسة كامنة، ثم تفقس بصيغة براعم وتتدرج في النمو.. وسأطلق على هذا النوع من الكمون
(2) الكمون الروائي الجواني
حين يقوم منتج القراءات بحراثة رواية (الشاهدة والزنجي) بمشروطية قراءة الروايات التي تليها، سيجد في التربة الروائية الأولى: بذور الروايات التي تلت الشاهدة والزنجي وهذا ما لمسته أثناء اشتغالي مع روايات الصقر التي كتبتُ عنها : صراخ النوارس/ الشاطىء الثاني/ المقامة البصرية/* وهناك مخطوطات مقالتي عن : بيت على نهر دجلة/ امرأة الغائب/ أشواق طائر الليل / رياح شرقية رياح غربية

(*)
ضمن نسق الكمون نلاحظ أن البستان الذي تقع فيه جريمة (الشاهدة والزنجي) البؤرة السرية للبغاء الليلي سيكون هذا البستان في رواية الصقر(المقامة البصرية ) محفل وجوه الثقافة البصرية، وفيه تتلاقى بصرة التاريخ العريق،بصرة الحريري، مع بصرة محمود عبد الوهاب ومجايليه من مثقفي البصرة في القرن العشرين
(*)
بدون أي أسراف سردي يدخل المؤلف مع السطر الأول وتحديدا مع النص الثاني من السطر الأول في تبئير لحظة عراقية (قبل أن ينزل حميد إلى النهر، لمح أحد رجال البوليس العسكري الأمريكي / 9) وهذا المشهد مبأر من خلال عينيّ حميد بن بهيّة شاب يمكن أن نعتبره نصف أبله
(*)
في الثلث الثالث من (ص10) نكون مع ما يجري ليلا في المكان المحروس :(يحرسون كل نقاط العبور طيلة النهار والليل،لكي يمنعوا جنودهم من الوصول إلى الضفة الثانية،حيث توجد بيوت الدعارة، ولكن عندما يأتي الليل ويهبط الظلام على المدينة،فأن بائعات الهوى أنفسهن يعبرن خِلسة ً إلى هذه الضفة، ويتسللن في حذرٍ إلى بساتين النخيل عند أطراف المدينة، على مشارف الثكنات والمستودعات المنتشرة في الصحراء)
(*)
وضمن الكمون والكمون النصي، (الضفة الأخرى) التي يرد ذكرها في (الشاهدة والزنجي)، ستتحول إلى رواية (الشاطىء الثاني) 1988
ونستروح شخصية نجاة من خلال شخصية المرأة المسقطة سكينة، التي سيكون لها عدة أسماء : سلوى،بلوى، سراب، سعاد وقد انتجت ُ قراءة ً أتصالية عن الرواية في كتابي (الأذن العصية واللسان المقطوع)
(*)
في ص 9س 8 من رواية (الشاهدة والزنجي) :تكمن رواية (صراخ النوارس ) وسيرد توصيف السارد للنهر وللنوارس في صفحات أخر
(*)
بعد مشهد مسح المكان : كان السرد،في (الشاهدة والزنجي) يخطو بجرعات موزونة وللدقة فأن السرد يحاكي( كلمات حسّون الناقصة والغامضة تُخفي أكثر مما تُظهر/22) في القراءة ما بعد الأولى للرواية: الكمون النصي يتسيّد على تدفق سيرورة ما جرى، ولا يهبنا إلاّ ما يشوش التلقي ويشوّقه في رصد المشهد،وستعمد قراءتي إلى فهرست بعض مشاهد الكمون النصي : مشهد الكمون النصي الرئيس الذي يبث موضوعة الرواية كلها تنبهنا إليه ربما القراءة ما بعد الثانية ويتكون الكمون الرئيس من راتوبين وكلاهما مبأرين بعينيّ الفتى نصف الأبله حميد بن بهيّه :
الراتوب الأول يعلنه السارد المطلق (يحرسون كُل نقاط نقاط العبور طيلة النهار والليل، لكي يمنعوا جنودهم من الوصول إلى الضفة الأخرى من النهر حيث توجد بيوت الدعارة، لكن عندما يأتي الليل ويهبط الظلام على المدينة،فأن بائعات الهوى أنفسهن يعبرن خلسة ً إلى هذه الضفة، كل واحدة منهن تحمل مفرشا تحت إبطها ويتسللن في حذرٍ إلى بساتين النخيل ../10)
الراتوب الثاني : حين يرى حميد أحدى سيارات الجيش الأمريكي تتوقف في الطرف الآخر من الشارع، وحميد (تعجبه كثيراً هذه السيارة الصغيرة.. ودّ لو أمتلك واحدة ً منها/11) نلاحظ أن عين حميد كانت مشدودة إلى السيارة فقط وليس في باله أي شيء وكذلك القارىء، في القراءة الأولى يعتبر السيارة امتداداً لمشهد المفتتح الروائي، لكن حين يترجل منها عسكريون أمريكان وشرطة محلية، هنا يتساءل حميد ونحن القراء نتساءل معه :(جاؤوا يلقون القبض على أحد ٍ.على مَن يا ترى؟ /11) وكقارىء سأنتظر جواباً من حميد على أسئلة حميد نفسه، حين يرى معهم نجاة سيرف قلبه ،أما صدمة التلقي لديّ فتسأل : ماذا فعلت نجاة ؟ إلى أين ذاهبة هي وأمها في هذا الوقت المبكر؟هنا يضخ السارد المطلق جرعة ً مرة ً من الكمون النصي تزيد قراءتنا تشويقاً من خلال ما يراه حميد وقد (أختلط الأمر عليه تماما،حين شاهد أمها تتكلم مع رجل الشرطة؟ رأى الرجال الثلاثة يتجهون إلى سيارتهم الصغيرة ونجاة تتبعهم هي وأمها/ 14) كقارىء سأصغي لتساؤلات حميد ويدفعني الفضول لتعقب الأمر.(من أجل نجاة جاء هؤلاء إذن؟ يا ألهي ماذا يحدث في هذه الدنيا؟ لماذا لا يريد هؤلاء أن يتركوا الناس وشأنهم؟ ما الذي يريدونه منها؟) هنا ترسل تساؤلات حميد وظيفة ً تنبيهية ً توطد أتصالية ً بين الشخوص والقارىء الباحث عن الكمون النصي. هذا القارىء سيلتقط كمونا ًآخر في الفصل الثاني حين يلاحظ الأعمى سيد مجيد: ضيقا في أجوبة حسون على أسئلته، وفي قراءتنا الأولى لهذه الصفحة لا نعلم أن حسون هو زوج نجاة
ولا نعلم لماذا تم التطليق، لأن السارد المستحوذ على أصوات الشخوص بأستثناء الفصل الأخير، يشتغل استراتيجية الكمون النصي، سنعلم نصف معنى الوحدة السردية الصغرى التالية (فمنذ اليوم الذي طلّق فيه زوجته وهو كئيب.. شارد الذهن .. لا يكاد يعي ما يدور حولهُ. مَن كان يُصدق أن أمرأة ً صغيرة ً طفلة ً كما كان يسميها.. تقوّض رجلاً في مثل سنه بهذا الشكل؟ /18) والسارد المطلق هنا يسرد بالإنابة عن الأعمى سيد مجيد ..
الكمون النصي الثالث حين يغادر سيد مجيد دكانة حسون، وما أن يحاذي بيت حسون حتى يصل (إلى سمعه ِ همس ٌ سريع ٌ يدور بين شخصين تلاه أصطفاق باب ٍ يغلق على عجل ٍ. ولم يستطع أن يتعرف على هوية المتكلمين،فقد كان الهمسُ خفيضا للغاية وخاطفاً،غير إنه استطاع أن يميز في أحد الصوتين نبرة ُ صوت ِ امرأة. سكنت عصاه على الأرض، وتوقف في مكانه، في حين تجمدت يده على الجدار. تذكّر َ الكلمات الغامضة المرتابة التي سمعها من حسون قبل قليل. / 25) نلاحظ أن سيد مجيد الأعمى أصطاد كمونا أثناء تحاوره مع حسون، ستحاول قراءتنا تعود إلى عينة ٍ من ذلك الحوار منها :(صدقني مولانا.. أنا حذرتها كثيراً من الخروج) (الجنود الأمريكان يامولانا يعتدون على أعراض الناس هذه الأيام.. نسمع عن حوادث عجيبة لا يصدقها العقل../21) وفي ص106 ينتقل الكمون النصي إلى الظهور وسيعرف القارىء المتحاورين المجهولين لديه في ص21 يعرف من هي المرأة ومن هو الرجل أيضا (لمحت وهي تقترب من البيت سيد مجيد الأعمى ولا تدري لماذا تخشاه.. يُخيل لها أن بأمكانه أن يكشف كل شيء..فاجأها مرة ً تتهامس عند الباب مع إبراهيم، لكنه لم يخبر زوجها../106)..
(*)
ثمة كمون نصي مرّكب يحتوي كمونات عدة، تفجرّها نجاة في مركز الشرطة، بإفادتها :(أنا لا أخرج في الليل. هذه أول مرة… إبراهيم هو السبب /114)..اسم إبراهيم يفجرّ بركانا في ذاكرة حسون الهانئة المستقرة ،فيتلمس حسون الكمونات لمس اليد ويتيقن أن (كل الدلائل كانت تشير إلى علاقة نجاة به،ولكنه لم يشأ أن يصدق .. مرة واحدة داخله الشك، حين اعترضت طريقه أم حميد تلك المرأة المخبولة، وأخبرته أن أبن الخبازة جاء سكران إلى المحلة ووقف على باب دارهم يهتف باسم زوجته نجاة ../ 115)..وحين استشاط غضبا، مثلّت نجاة دور الحمل البريء (سكران ويهذي .. ما ذنبي أنا؟) .. ألا يتحمل حسون دورا كبيرا، في تنويم الكمون النصي في ذاته؟ فأعتبر آنذاك (أستيقظت ذاكرته من سباتها فجأة ً،وأخذت تقذف إلى سطح وعيه بخليط من الكلمات التي طرقت سمعه في أوقات مختلفة،ولم يعرها إهتماماً، ومن المشاهد التي مرت أمامه وبدت له بريئة في حينها،وأخذت كل هذه الكلمات والمشاهد تتكشف له عن دلالات مريبة.. عجيب كيف لم ينتبه لها هو في حينها. ما الذي أعمّاه؟ ثقته الساذجة في الآخرين، وفوق كل شيء، كسله ورتابة حياته/ 115) كل هذه الكمونات، قد تغاضى عنها حسون بسبب( خوفه الخفي مِن أن يزعزع ذلك الوهم الجميل بأنه يعيش حياة ً هانئة مستقرة مع امرأة صغيرة جميلة تخلص له..)..
(*)
يمكن اعتبار هذه الوحدة السردية هي صدمة الكمون الأولى، يبثها لنا السارد المطلق، في العشرة الثالثة من صفحات الرواية :
(الشرطة المحلية أنهت التحقيق معها قبل أكثر من أسبوع،وظنّت هي أنّ كُل شيء أنتهى، حتى فاجأوها بمجيئهم عليها اليوم..ص30) ..ويزداد المشهد تشويشا أنه مبأر من خلال عينيّ حميد بن بهيه فتى غير سويّ عقليا وهو يرى نجاة (تخرج من عتمة السوق في تلك اللحظة،وإلى جوارها أمها بجسدها العريض، وفقد َ سريعا اهتمامه بالرجال الثلاثة، وتعلقت نظراته الوالهة بوجه نجاة الذي يعشقه. تُرى إلى أين ذاهبة هي وأمها في هذا الوقت المبكر من النهار؟ ولكن الأمر أختلط عليه حين شاهد أمها تتكلم مع رجل من الشرطة المحلّية، وتلوّح بيدها في غضبٍ،رأى الرجال الثلاثة يتجهون إلى سيارتهم ونجاة تتبعهم هي وأمها. وهنا داخله القلق. من أجل نجاة جاء هؤلاء إذن؟ ماذا يحدث في هذه الدنيا؟ لماذا لايريدُ هؤلاء أن يتركوا الناس وشأنهم؟ ما الذي يريدونه منها؟ /14) بالطبع لن تتطابق رؤية القارىء مع رواية حميد، لكن القارىء سيدفعه فضوله لمواصلة تعقب نجاة وأمها والشرطة، يتعقبهم بمواصله قراءة الرواية، لكن ما يحصل عليه القارىء : شظايا متفرقة، تجعل الحدث يعزز كمونه النصي وصولا …إلى ص137 حيث يعرفُ ما جرى لنجاة في البساتين ليلا..وما جرى أحدث قطعا نفسيا في حياة نجاة (بضربة قاصمة ٍ واحدة ٍ، نقلتها ليلة البساتين الرهيبة،في لمحة عين، من عالم الدعة والهموم الصغيرة إلى عالم آخر،مسدود المنافذ شرس شديد الظلمة، لاتعرف كيف تتلمس طريقها فيه../64)
(*)
هل يوجد نص كامن آخر في نص (الشاهدة والزنجي)؟ نعم رأيتُ نصين : النص الأول أن الصقر،حين صدرت روايته الأولى من دار الشؤون الثقافية في بغدادعام 1988 فهو كتبَ عما جرى في البصرة قبل أربعين عاما.. ولم يرد اسم البصرة بشكل صريح ولا أسماء الأمكنة !! وهو كمون الموضوعة كما أن تاريخ نشر (الشاهدة والزنجي) جاء أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وليس ما جرى للبصرة في الحرب العراقية الإيرانية .. خلافا لكل الروايات الصادرة أثناء الحرب من داخلة المؤسسة الرسمية : دار الشؤون الثقافية ..وما جرى أثناء سنوات الحرب، سيتناوله في روائعه الثلاث التي هي بحق قطع سردي مع كل قصصه ورواياته أعني بذلك الروايات الثلاثة : صراخ النورس/ بيت على نهر دجلة/ امرأة الغائب
هذه الروايات الثلاث تتقاطع في رؤيتها مع السائد آنذاك وتسرد مؤثرية الحرب الباهظة على العائلة العراقية وهذه الروايات الثلاث كانت كامنة منتبذة في أدراج الروائي بعيدا ً عن الجميع وقريبا ً من نبضه ورهافته : يشهد لنا في ذلك كتابه (وجع الكتابة ) وهذه الروايات الثلاث : قفزة نوعية في سرديات الصقر وكذلك في الرواية العراقية، بتقنيتها الجديدة على مشغل الصقر نفسه .
(*)
هناك كمون من طراز آخر، سحبته قراءتي المتكررة وها هي تنضده
نجاة وهي بجوار المترجم توفيق في الطريق للمعسكر بحثاً عن وجه القاتل ..توفيق المترجم يحدق فيها، يروم أصطياد ما تفكر به، تطمئنه لا يوجد شيء، لكنها تضمر قرارا لا فكاك منه وهذا القرار لا يحق لسواها معرفته (يجب أن لا يعرف ما تنوي القيام به، من يدري ربمّا أخبر الكولونيل أو ربما حاول أن يزعزع قناعتها باقرار الذي اتخذته، وهي لا تريد ان يشوش عليها تفكيرها أحد بعد أن وصلت الى هذا القرار، يجب أن يبقى سرها الأسود في صدرها لا يعرف به أحد../163) ويدخل هذا الكمون الفعلي نسق الإحالة التكرارية.. في ص196(هي لم تخبر أمها بهذا الوجع، فأن ذلك دافع آخر يجعلها تمضي فيما اعتزمت عليه ..) وحين يقترح زوج أمها أن تنام أمها مع، ترفض نجاة المقترح، فتكشف لنا الإحالة التكرارية الثالثة، سبب الرفض وهو ماهو سرها الأسود المخبوء، ولا نسمع ذلك منها بل يخبرنا السارد المطلق (يجب أن لا تدع أحداً يشعر بها وهي تغادر البيت عند الفجر .. وخصوصاً أمّها./200) حين تتذكر طفولتها المائية مع منصورة وهي أقرب أترابها إليها وكيف سرقت نجاة العصا التي تضربها بها أمها، ورمت العصا في ماء النهر( بعد ذلك ما عدنا نراها.. اختفت ..أخذها الماء إلى البحر../ 198) هنا تستغرب ام نجاة من كلام نجاة، والقارىء أثناء القراءة الأولى يستغرب أيضا، لكن بعد القراءة الاولى سيرى في هذا التذكر الذي تسرد نجاة، يكمن فعل تدوير سرد جزئي، في طيته يتأهب فعل إستباقي لما قررته نجاة . نجاة الوحيدة بفعلها الشائن الغاطسة في قعر بئر عميق، بمعزل عن العالم كله ..
(*)
البحث عن الوجه المفقود
قدرة طاقتها تحاول قراءتي أن تتجنب تكرار المكتوب نقديا عن (الشاهدة والزنجي) موضوعة الرواية والشخصية المحورية في الرواية هي : الوجه المفقود، وسيرورة الرواية : هي محاولة شاقة في البحث عن الوجه المفقود(..الوجه الأسود اللاهث،هي تتشظى بين أحاسيس متصارعة مجنونة وألم وحشي مُدمر..أذناها ما كانت تسمعان غير اللهاث المخبول فوقها../135) من هذه اللحظة يمسك السارد المطلق مصباحا يدويا في ليل الرواية ونهارها ويسلطه على كل وجهٍ يراه في فضاء الرواية، لعله يقبض على الوجه المنشود :
الجندي الزنجي الذي اغتصبها، حين يصل أحد جنود (إم بي) ويسلط الضوء عليه سيرفع يديه (يحجب بها وجهه وهو يستدير لينفلت في اتجاه آخر../136).. كلما جاءت الشرطة المحلية : (كانت نجاة تُخفي وجهها عن العيون المتطفلة لعابري السبيل الذين تجمعوا حول سيارة (الجيب) وحيت تحركت بها السيارة رفعت وجهها / 29) هي بدافع الخجل تخفي وجهها أما العسكري الأمريكي فيحجب وجهه حتى لايتعرف عليه حرس الدورية في ليلة سابقة على هذه الليلة، حين تورط حميد بن بهية وذهب مع إبراهيم أبن الخبازة، وجوهر وشخص لايرد اسمه في الرواية تلك الليلة حين قام إبراهيم بتسليب عاهرتين وسمسارهما، تلك الليلة وقد كلفه جوهر أن يمسك أحدى العاهرتين من ذراعها ليمنعها من الفرار، كان قد أربكه صوتها المتوسل، كان يرى عينيها في العتمة فقط (أما ملامح وجهها فلم يكن يستطيع أن يتبينها بوضوحٍ كاف ٍ/ 71) وجه النذل إبراهيم أبن الخبازة خذلها وأرسل صوته في ليل مسلحّ يطالب نجاة بالنجاة !! وهنا يحضرني الشاعر إمل دنقل:(أنت لا تسطيع حماية امرأة في الظلام ) إبراهيم المتخفي فيناديها:(نجاة اُهربي أهربي بسرعة/ 135) وممن تهرب؟ ولماذا لم يقم بتهريبها إبراهيم ؟ وحسب تعليق السارد المطلق (وهل هناك بعد خطر عليها أكثر مما حل بها؟) وإبراهيم سيختفي قبل الصراع ومقتل الجندي الأمريكي. وهكذا تكون الرواية لدى بعض القراء أشبه برواية بوليسية تشتغل على تفكيك اللغز، أن الأمتهان الذي تكابده نجاة، من تكرار أخذها من بيتها إلى المعسكرات، حين تحدق فيها كل وجوه المحلة والسوق، ثم تتجاوز التحديق لتتجمهر الوجوه أمام باب بيتهم،وحين تكون في المعسكر،فأن كل نظرة إلى وجهها من قبل العسكريين الأمريكان : تشعرها بالمهانة والعجز/ 160 هذا الشعور يجعلها(أن تضع نهاية لحياة التوجس والارتياب هذه. ستشير إلى أي واحد منهم اليوم وتقول..هذا هو.. كما قالت لها أمها) لقد اعياها تصفح وجوههم وهم ينتظمون أنساقا،وعلى ذمة السارد المطلق (فقد بقيت الوجوه التي تشبه وجه ذلك الوحش الذي أفترسها كثيرة جدا..أكثر من الوجوه التي لا تشبهه../132) فعلا هم كلهم وجه محتقن ومتأهب لأفتراس جسدها. في الكثرة المتشابهة الملامح، تذاوب وجه المغتصب (يبدو أن وجهه ضاع عليّ. كلهم متشابهون.. الشفاه نفسها.. والأنوف.. وكذلك الشعر واللون أيضا. وأنا محتارة .. لا أدري ماذا أفعل !/ 101)
(*)
الوجه المفقود كان لثامه من ظلامين : ظلام الليل في بستان خارج الأضوية، وظلام الزنجيين .. أما البحث القسري الاستعلائي الذي يمارس الحاكم العسكري الأمريكي، مرغماً نجاة أن تكتشف وجه القاتل بين مئات الزنوج العسكريين، هذا البحث من أجل الحفاظ على وجه الحاكم نفسهُ ،والبحث عن الوجه المطلوب منها،في ليلة البساتين تلك، تحت ضوء المصباح اليدوي للعسكري الامريكي:(تكشّف لها،بوضوح شديد،وجه ذلك الزنجي الذي كان يلهث فوقها قبل لحظات..الانف القصير،والشفاه الغليظة،والعينان الصغيرتان../137).وحين يتعارك العسكريان الزنجيان مع عسكري الدورية الامريكية، وينتصران عليه(لم تعد تُميز وجه َ أيا منهم.. ثلاثة أشباح سوداء تنتصب أمامهم في العتمة../138).. النذل إبراهيم أبن الخبازة وهو في البار: وجهها أمامي ..أينما أمشي..أنا دمرتها/119)
(*)
*نجاة ترى وجهها بالإستعاضة يصبح منديلها مرآتها (الهواء يهب على وجهها مشبعا بغبار ناعم أصفر. مسحت العرق عن وجهها بمنديلها الأبيض الصغير،ثم نظرت إليه في أشمئزاز. منديلها النظيف أتسخ سريعا وتحول إلى خرقة قذرة.. تُرى كيف يبدو وجهها الآن ؟/ 87)
* كثرة الوجوه المتشابهة أخفت وجه القاتل بالنسبة لنجاة / 101
*المسدس هو وجه العسكري القاتل فمن خلال المسدس، يمكن أن يتعرفوا على القاتل.(بدأوا يبحثون عن المسدس الذي استعمله الجناة. إذا عثروا عليه تنتهي المسألة بالنسبة لك أنت../ 103)
(*)
بسبب وحشية المستعمر في التعامل مع نجاة، تخلصت من البحث عن الضالة المنشودة : البحث عن الوجه المفقود
(*)
نجاة ليست شاهدة بل ضحية (يتصرفون كأنهم أسياد، يعتدون عليها ثم يأخذونها للشهادة، كأنها ليست هي الضحية الأولى /84) ..هنا يختزل المؤلف مهدي عيسى الصقر،رأيه في موضوعته الروائية وينقض عنوان روايته، فهي شاهدة من وجهة نظر المستعمر، فالحاكم يتعامل معها كمستند فقط . وهو لا يدافع عن القتيل بل حفاظا على ماء وجهه ومنصبه.
(*)
بالعرف الاجتماعي : نجاة امرأة بقدميها انتهكت حرمة بيتها حين تسللت ليلاً من بيتها بلا حياء ولا ضمير، تسللت بدافع غريزي رغم تحذيرات حميد بن بهية، جلبت العار لأمها ولزوجها المسكين
(*)
سؤال كامن يثب من كمونه إلى ظهور شرس مقبوح: نجاة متزوجة منذ سنوات من حسون، نجاة التي تتمنى (أن تكون لديها طفلة أو طفل ترعاه.. تحمله بين ذراعيها. تهدده وترقبه وهو ينمو..تسمعه يلثغ بكلماته الأولى../ 196) نجاة لم تحبل طيلة سنوات زواجها من حسون! هاهي نجاة ترفس في رحمها نطفة زنى من الزنجي الذي اغتصبها..
*مهدي عيسى الصقر / الشاهدة والزنجي/ الطبعة الثانية/ دار المكتبة الأهلية/ بصرة – بيروت / 2019
*مقالاتي المنشورة عن روايات مهدي عيسى الصقر
*غواية الماء في(صراخ النوارس) منشورة في مجلة الاقلام / العدد الخاص بالروائي مهدي عيسى الصقر / 1998
والمقالة نفسها منشورة في كتابي النقدي(الأذن العصية واللسان المقطوع) / دار الينابيع/ دمشق/ 2008 وفي الكتاب نفسه مقالتي عن رواية (الشاطىء الثاني)
*مقالتي عن (المقامة البصرية ) منشورة في صحيفة طريق الشعب / 2006
* وفي طريق الشعب أجريتُ حوارا مع السيدة أرملة مهدي عيسى الصقر
*مقالاتي مخطوطة عن بقية روايات الصقر، وقد اطلع عليها بعض أدباء البصرة ..