18 ديسمبر، 2024 7:18 م

مهدي السعيد وسرّديته السسوثقافية

مهدي السعيد وسرّديته السسوثقافية

مقدمة لكتاب (الجذور) “سيرة ذاتية”
إني أحدثك لترى
فإن رأيت
فلا حديث
النفري
قلم السياسي مغمّساً بحبر الذاكرة
حين كتب مهدي السعيد “سيرته الذاتية” التي بدأت من أزقة الكرخ القديمة كما يروي وصولاً إلى براغ ولندن ودمشق، لم يكن يدر في خلده، إنه سيدوّن بعفوية شيّقة جوانب مهمّة من تاريخ محلّة الدوريين بشكل خاص، والمحلّة البغدادية بشكل عام، بكل تناقضاتها الإيجابية والسلبية وعناصر القوة والضعف فيها. وذهب أكثر من ذلك في مشواره السردي حين رسم بريشته لوحة بانورامية للمشهد السسيوثقافي لمدن عاش فيها، مستعرضاً في الوقت نفسه علاقات واسعة وعميقة مع رفاق وأصدقاء جمعته معهم حياة كاملة بكل عنفوانها وبكل ما لها وما عليها، بحلوها ومرّها، بما فيها من معاناة وقلق وهموم وآمال وأحلام وانكسارات.
وبعدسة فنان حاول مهدي السعيد أن يصوّر لنا عدداً من اللاعبين على خشبة المسرح وحركاتهم وسكناتهم بعيني مراقب دقيق، وفي أحيان كثيرة كان يقترب من المشاركة أو يكون جزءًا منها، لكنه لا ينسى المراقبة التي سرعان ما يعود إليها وكأنه لا يريد أن يفقد متعة المشاهدة، وحسب صموئيل بيكت “المتعة بالفِرجة”، خصوصاً وإن مسرحنا السياسي ازدحم في العقود الثلاثة الماضية بألوان شتى من اللاعبين، من هواة السيرك إلى محترفي الجمنازتيك مروراً بالسحرة والمشعوذين وقرّاء الكف وفتّاحي الفال وصولاً إلى أصحاب التعاويذ والحروز المتنّوعة، حتى إنك لا تستطيع أن تميّز أحياناً بين الشيء وضدّه، فقد اختلطت الوجوه والصور والمواقف.
وحسبنا أن نردّد قول شاعرنا الجميل مظفّر النواب : “قتلتنا الردّه إن الواحد منّا يحمل في الداخل ضدّه”، خصوصاً حين إفتُقِدَتْ الصدقية التي كانت الرأسمال الإنساني الحقيقي سواء على الصعيد السياسي أو ببعديها الإجتماعي والثقافي، يوم كانت الأخطاء ذاتها صميمية، فالمرء يجتهد، وقد يخطأ وقد يصيب. وحسب قول الإمام الشافعي : “قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول مخالفي خطأ يحتمل الصواب” والبشر وفقاً لفولتير “خطّاؤون”، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة فحيثما يميل تميل معه، لذلك اقتضى أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.
وحين تنهار المنظومة القيمية الإنسانية والأخلاقية أو تتصدّع أركانها، سواء بفعل عوامل خارجية أو داخلية، فإن صورة المجتمع تتشّوش بفعل الفوضى والعنف والزيف، خصوصاً حين تتداخل القضايا والمصالح. ولو تابعنا البرامج والسياسات والعلاقات الإجتماعية بغض النظر عن المواقع والمواقف، فسنرى الكثير من عناصر الشبه بينها، حتى إن المرء لا يستطيع أن يميّز أحياناً بين ذات الشمال وذات اليمين، لاسيّما حين أخذ بعضهم يستعير لسان الآخر وخطابه، حتى وإن كان متخماً بعكسه وأشبعنا بضدّه على مدى سنوات طوال. هكذا تضبّبت الصورة واختلط المشهد وتداخلت المواقع والأطروحات.
كان مهدي السعيد وهو ابن البيئة الشعبية البغدادية الكرخية يقارب المشهد السياسي برؤية سسيوثقافية، ولم يرغب أن تفلت حادثة كبرى أو صغرى إلّا وحاول أن يمرّ عليها ولو سريعاً، كما توقّف عند بعضها وتعمّق في أخرى، لكن حبكته الدرامية ظلّت تنتقل معه وتتداخل مصادرها بين الإجتماعي والثقافي، وإنْ ظلّ السياسي والحزبي لاحقاً متميّزين في رؤيته على نحو بارز وشديد.
ولكنه بالتدرّج أخذ يتّجه نحو أفق أوسع رحابة، منتقّلاً من العمل الحزبي “الضيّق” إلى العمل السياسي بمعناه “الواسع”، ومن هذا الأخير إلى العمل الإعلامي، خصوصاً باتساع معارفه وعلاقاته العربية بعد أن عمل في السفارة اليمنية في براغ وفيما بعد حين انتقاله إلى لندن، حيث توسّعت دائرة اهتماماته وعلاقاته العراقية، إضافة إلى الوسط الإعلامي العربي. وقد وفّر له ذلك فرصة إجراء مراجعات تاريخية، لاسيّما في سنوات ما بعد الإحتلال، لينتقل إلى التأمل وإعادة قراءة بعض الأحداث ونقدها بروح منفتحة وغير حزبوية.
جيل الستينات : جيل الأسئلة
منذ أن علقَ مهدي السعيد بالسياسة، فتعلّق بأهدابها وركض وراء أحلامها الوردية حتى وإنْ كلفته منافي ومعاناة، لكنه واصل سيره في دروبها الفسيحة والوعرة في الآن، منتقلاً من محطة إلى أخرى ومن مدينة إلى ثانية، حاملاً معه ذكريات متنوعة مختزناً أسراراً عديدة.
وكنت قد تعرّفت عليه وعلى أشقائه في العام 1960 وذلك من خلال صديقي العزيز جواد العادلي عن طريق صاحب المكوى “اسماعيل” الذي يرد ذكره في المذكرات، وهو من أقارب العادلي وكانت عائلته صديقة لعائلتنا وسكنوا بجوارنا لفترة من الزمن، وكان شقيق جواد العادلي “حمودي العادلي” وهو عضو في الحزب الشيوعي معتقلاً معنا، وقد تمّ تقديمه للمجلس العرفي العسكري، وحكم عليه لثلاث سنوات قضاها في سجن نقرة السلمان الصحراوي. وبعد إطلاق سراحنا وتسوية أمور فصلنا من المدرسة وقبولي في الجامعة، إلتقيت بهادي ومهدي وفيما بعد سعدي السعيد عدّة مرّات، حتى تعمّقت علاقاتنا خلال أحداث انشقاق الحزب الشيوعي في العام 1967 واستمرت خلال العقود المنصرمة.
ولذلك حين طلب مني مهدي السعيد كتابة مقدمة لسيرته الذاتية، ركنت مشاعر الصداقة جانباً لكي أقرأ ما أعرفه ولا أعرفه عن صديق جمعتني به صداقة زادت على خمسة عقود ونصف من الزمان. ولا أذيع سراً إذا قلت إنني بقدر ما أعرف مهدي السعيد فقد استمتعت بما كتبه وبما لفت الإنتباه إليه وبما حاول إضاءته، فقد عاش الأحداث بكل جوانحه منذ أواخرالخمسينات ومطالع الستينات من خلال معاينة ومعايشة ومشاركة، خصوصاً حين بدأ وعيه الأول يتشّكل مع السنوات الأولى من ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 ليتوقف عند محطتة الراهنة، وهو بعد نحو نصف قرن من التعب والكدّ والإنشغال، يراجع بروح إيجابية مسيرته التي لا تخلو من مرارة وخيبة، بل إنه يراجع مسيرة جيلنا أيضاً، خصوصاً لماعاناه.
وحين أتحدّث عن جيلنا فهو جيل الستينات الذي أفلح الشاعر والروائي فاضل العزّاوي في كتابه “جيل الستينات – الروح الحيّة” في تسليط الضوء على معاناته الفائقة وإرهاصاته الباهرة، سواء على الصعيد السياسي والثقافي أو على الصعيد الإجتماعي لا سيّما التطلّع إلى الحداثة والإنفتاح على المدارس المختلفة في الأدب والفن والعمارة بكل صنوفها وألوانها، خصوصاً بعد هزّة العام 1963 الإرتدادية، التي أحدثت صدمة كبرى في الحركة الفكرية والثقافية والسياسية في العراق. وكان هذا الجيل قد اجترح عذابات لا حدود لها على صعيد الفكر والهوّية والعلاقة بالآخر والتنوّع والتعدّدية، وبالطبع في قضايا الحريات العامة والخاصة، ولاسيّما حرّية التعبير والإعتقاد والتنظيم والحق في المشاركة.
ويختلف جيل الستينات الذي عاش فترة انتقال حادّة وأوضاع تغيير على صعيد عالمي، عن جيل الأربعينات والخمسينات، حيث سادت اليقينيات الآيديولوجية والتقسيمات الإستاتيكية “شبه الثابتة” في تقويم طبيعة الصراع، ناهيك عن الإنخراط فيه، كما إنه يتميّز عن جيل السبعينات والثمانينات الذي بدأ معه صراع من نوع آخر وكان المشهد قد اكتمل، فجيل الستينات هو جيل الأسئلة الكبرى، حيث لم تعد تكفيه الإجابات الجاهزة، واليقينيات السرمدية والحتميات التاريخية، فقد أخذت الأسئلة تتكدّس، وكان الجواب لا يجد سبيلاً للإقناع، وهكذا كانت الإرهاصات تكبر وتغتني بالمعارف والعلوم والتكنولوجيا، الأمر الذي احتاج إلى نوع جديد من الجدل على مستوى الداخل الجوّاني، إضافة إلى الخارج الفوقاني.
لم يتحدث مهدي السعيد عن جيل الستينات بشكل عام، بل اختار “حلقة” محدّدة منه طابعها العام متمرّد وبأشكال متنوّعة وامتازت بنوع من التضامن والتواصل والمودّة، على الرغم من العواصف والمتغيّرات والصراعات (الداخلية والخارجية) التي كانت سائدة فضلاً عن اختلاف المواقع والمواقف والمآلات لاحقاً، وهو ما قد أعود إليه في وقت آخر.
ويذكر مهدي السعيد بالأسماء عدداً من أفراد تلك “الحلقة” اليسارية التي عملت بثقة وظلّت متماسكة في كل الظروف أصابت أم أخطأت.
بصمة مملّحة
جاءت سيرة مهدي السعيد مزيجاً من ذكريات ومذكرات واستعارات ومراجعات وتجارب وخبر منها ماهو ناجح ومنها ماهو فاشل، وبقدر ما حاولت تقديم عرض جاد لتجربة ذاتية وسياسية بامتياز، فإنها في الوقت نفسه حفلت بطرائف وحكايات ومصادفات ممتعة حاول الكاتب تمليح نصّه لكي لا يأتي ثقيلاً، وقد وضعها بأسلوب مبسّط ويكاد يكون عفوياً، ولعلّها تعكس جوانب من شخصيته المرحة رغم جديّتها.
السيرة الذاتية لمهدي السعيد تضمّنت بوحاً في جزء غير قليل منها وكشفاً لواقع سسيوثقافي، حاول أن يعطيه بصمته الخاصة، خصوصأً باستعراض لا يخلو من دهشة الكاتب ذاته الذي اختزن هذا الكمّ الهائل من الصور والمشاهد والأحداث والمفارقات في ذاكرته، وقد يكون مفيداً قراءة هذه المذكرات كحلقة متصلة ومتكاملة، بل ومتراصة على الرغم من المراحل التي وضعها.
محلّة الدوريين
تحدّث مهدي السعيد عن طفولته وعائلته، وفي الوقت نفسه فإنه غاص في الكلام عن محلّة الدوريين، منبع صباه ومسقط رأسه، حيث تناول دراسته وصداقاته، حتى وصل إلى تشكّل وعيه، ثم انخراطه بالعمل السياسي، وفي أواسط الستينات نشط في إطار الحزب الشيوعي ثم أصبح عضواً فيه، وعمل في اتحاد الطلبة وانتخب في المؤتمر الرابع المنعقد في “جديدة الشط” في منطقة “الراشدية” في 28 كانون الأول (ديسمبر) 1968 عضواً في لجنته التنفيذية، وكان شقيقه سعدي السعيد عضواً في سكرتارية اتحاد الطلبة منذ أواخر العام 1967، حيث تمّ تجديد انتخابه في الكونفرنس الرابع الذي التأم في جزيرة “أم الخنازير” ببغداد في 10 تشرين الأول / أكتوبر 1969. وحسب معرفتي المتواضعة فقد لعب كل من مهدي وسعدي السعيد دوراً مهماً في مواجهة حركة الإنشقاق الكبرى التي قادها عزيز الحاج في (17 أيلول /سبتمبر/ 1967) ولاسيّما في نطاق طلبة الثانويات، واستطاعا أن يشكّلا ركائز مهمة وأساسية.
وتقرّر أن يمنح الحزب زمالة دراسية لمهدي السعيد الذي كان قد تخرّج من الثانوية ولم يجد فرصة للدراسة في بغداد، وحاول الدراسة في دمشق، لكنه عاد بسبب التكاليف الباهظة، وهكذا غادر هو ومحمد الأسدي إلى براغ في العام 1969 الذي مُنح هو الآخر زمالة دراسية، وحينها انتخب في قيادة الإتحاد في المؤتمر الرابع أيضاً، وواصل مهدي السعيد نشاطه في براغ فأصبح عضواً في لجنة التنسيق الطلابية (لقيادة تنظيمات الخارج) في أواسط السبعينات، ثم عضواً في لجنة تشيكوسلوفاكيا للحزب، وعاد إلى العراق ليخدم العلم، واضطّر إلى الهجرة مرّة أخرى بسبب تردّي الأوضاع السياسية، وانهيار صرح الجبهة الوطنية بين البعثيين والشيوعيين، لاسيّما اشتداد حملة المطاردة ضد الحزب الشيوعي وأعضائه ومؤيديه.
وفي عودته الثانية إلى براغ أكمل الدكتوراه وعمل لمدة 10 سنوات مترجماً في السفارة اليمنية، ثم اضطّر إلى اللجوء للعاصمة البريطانية “لندن” بعد انهيار النظام في تشيكوسلوفاكيا واندماج اليمن الجنوبية بالشمالية وتحقق الوحدة اليمنية، وكان وقتها يحمل جواز سفر يمني جنوبي، ولم يكن مؤكداً تجديد عقد العمل معه، لذلك اختار اللجوء.
وفي لندن واصل عمله السياسي، وهذه المرّة من خلال المعارضة العراقية التي عمل في إعلامها وحضر عدداً من مؤتمراتها، كما كتب في صحف وإذاعات عربية كجريدة “الحياة” وإذاعة “كل العرب”، واتّسعت دائرة علاقاته، وأخذ ينظر إلى الماضي برؤية نقدية أكثر من قبل، حيث قرّر أن يستقل في نشاطه السياسي والثقافي.
ولأنه اتخذ موقفاً خلال اجتماعات واشنطن للمعارضة العراقية كما يقول، حيث كانت توضع اللمسات ماقبل الأخيرة لغزو العراق، فقد استبعد من المشاركة لاحقاً في التشكيلات الحكومية والإعلامية، ويعدّد بمرارة إن جميع من كانوا معه حصلوا على مناصب عليا، وهو الوحيد الذي تمّ استثناؤه كما يذكر، ولكنه غير نادم على ذلك، فقد تكشّفت أمامه الكثير من الحقائق ما بعد الإحتلال، ولم يكن يرتضي قبول الكثير منها، وهو سعيد بما اتخذه من موقف يسرده في هذه المذكرات، من خلال نقد ذاتي وهو ماعبّر عنه أمامي أكثر من مرّة.

الطفولة – الينبوع – المستقبل
ويتناول في محطات الطفولة الأولى، انتقال والده ووالدته من الناصرية حيث ينحدر من عشيرة آل إزيرج العربية، ليستقرّا في بغداد وفي محلة الدوريين، وكيف التحق والده الفلاح البسيط كما يقول بخدمة العلم العام 1948 حيث أرسل إلى فلسطين، وكانت العائلة قد استبشرت قبل ذلك بولادة الصبي الذي أسماه “مهدي” تيمّناً بالمهدي المنتظر “صاحب الزمان”، وهو ثالث أخوته بعد كاظم وهادي، ويأتي رابعهم سعدي الذي سيرافق مهدي في مسيرة الشقاء والشيوعية والمنافي، وكان سعدي قد غيّر اسمه إلى “عادل” بعد اعتقالات وملاحقات، وبذلك تمكّن رسمياً من الحصول على جواز سفر، لمغادرة العراق للدراسة أولاً، ثم عاد إلى العراق، وحين اشتدت حملة ملاحقة الشيوعيين اضطر للسفر إلى بيروت ومنها إلى دمشق، حيث عمل في وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا” وفيما بعد هاجر إلى باريس للإستقرار.
يتحدّث مهدي السعيد عن محلّة الدوريين الينبوع المتدفق بالجديد، ولا سيّما سوقها الشهير المعروف “سوق عيسى” وكيف كان الناس بعد ثورة 14 تموز(يوليو) 1958، متعايشين ومتضامنين، لكن ما حدث من شرخ سياسي أدى لإنقسامهم إلى قسمين، وكانت السياسة قد لعبت بالرؤوس كما يقال، فالقسم الأول وقع تحت تأثير الحزب الشيوعي، في حين وقع القسم الثاني تحت نفوذ القوميين، وخصوصاً من حزب الإستقلال ومن ثم حزب البعث، وكان مثل هذا التصنيف امتداداً لنفوذ الأحزاب قبل الثورة، لكنه اتّخذ طابعاً عدائياً وتناحرياً بعدها، حيث اشتّدت الخصومات والعداوات والبغضاء.
ولم يكتفِ مهدي السعيد “أبو ثبات” كما كنّا نكنّيه أو الرفيق “صائب” أو “أبو أسيل” لاحقاً بتصوير الأجواء السياسية المحتدمة، بل سرد علينا حكايات وقصصاً ممتعة وفي الوقت نفسه لها دلالات ينبغي أن تقرأ في سياقها التاريخي عن الوضع الإجتماعي والإقتصادي والثقافي والتعليمي والصحي لسكان محلّة الدوريين.
ولم ينس أن يتعرّض للإنتماءات العرقية والتنوّع والتعدّدية التي عرفتها، فهناك العوائل المسيحية و الصابئية (المندائية)، وهناك عرب من غرب العراق من أصول سنّية، مثلما هناك العرب الشيعة، وهؤلاء غالبيتهم من وسط وجنوب العراق إضافة إلى وجود مجموعة من العوائل الكردية، وهو بذلك حاول أن ينقل لنا حالة التعايش والتسامح والتضامن التي كانت الكثير من مناطق ومحلّات بغداد تعيشها بطريقة عفوية وتلقائية ودون أية حساسيات، مثلما كانت محافظات أخرى تعيش ذلك مثل الموصل والبصرة وكركوك وديالى والحلة وغيرها، وهي مناطق توتر وعنف وتطهير عرقي وطائفي، إضافة إلى محافظات إقليم كردستان مثل إربيل والسليمانية ودهوك.
الشقاوات
ينتقل السعيد بعد ذلك ليحدثنا عن صنف إجتماعي آخر، ألا وهو “الشقاوات” وهم صنف يمتاز بقيم ومفاهيم خاصة عن النخوة والشهامة والدفاع عن المظلوم، وفي الوقت نفسه يلتجأ إلى أخذ “الأتاوات” أحياناً واستخدام العنف ومحاولات الإستقواء على الآخرين لفرض الهيمنة عليهم. ويشير إلى أنّ مُثل الشجاعة والتصدي للغرباء والدفاع عن أبناء المحلّة كانت تستهوي الشباب تشبّهاً أحياناً ببعض الشقاوات، ويقول أنه “وفي إحدى مراحل النمو كدتُ أفقد بوصلة التطور الإيجابي وأتحوّل إلى صنف الشباب الذي يمارس الشقاوة”، ولكن تربيته العائلية والمحيط الإجتماعي هو الذي جعله يختار طريق التعليم والسياسة لاحقاً، وإلّا كما يقول كنت : “مقتولاً أو قابعاً في السجون”.
والشقاوات التي يتحدث عنهم مهدي السعيد وإنْ كانوا يحترمون المثقفين والأدباء، فهم انقسموا أيضاً بانقسام الشارع السياسي، فمال قسم منهم إلى القوميين والبعثيين، بل أصبح بعضهم من الجهاز الصدامي المعروف باسم “جهاز حنين” الذي أشرف عليه صدام حسين نفسه، ومن أبرز أعضائه كان “جبار كردي” و “ستار كردي”، وكان آخر عمل قاما به هو إطلاق النار على تظاهرة احتفالية شيوعية بمناسبة ثورة أكتوبر (1968) في ساحة السباع ببغداد، حيث استشهد فيها 3 أشخاص وجرح 12 شخصاً، أما القسم الثاني فمال إلى الشيوعيين ومن أبرزهم “خليل أبو الهوب” الذي قُتل في العام 1959 في مقهى بشارع النصر ببغداد، ومساعده فاضل طويرني الذي لجأ إلى ألمانيا الديمقراطية، وفيما بعد إلى براغ وعاد إلى بغداد في أواسط السبعينات.
وتعتبر ظاهرة الشقاوات قديمة وتعود إلى العهد العثماني، ومن أبرز الشقاوات “أحمد قرداش”، واشتهر عدد من الشقاوات في مطلع القرن العشرين مثل “إبن عبد كه” الذي ذاع صيته و”موسى أبو طبرة” و”جواد الأجلّك”، وقد تناول سِيَرِهمْ عالم الإجتماع المبدع علي الوردي، وخلال اندلاع ثورة العشرين، انضم إليها بعض الشقاوات وأبلوا فيها بلاءً حسناً مثل “عبدالمجيد كنّه” وهو عمّ الوزير خليل كنّه، وقد ساهم في مقاومة الإنكليز، إضافة إلى تكليفه بمهمات أخرى.
وحسب حسن العلوي فإن نوري السعيد هو الآخر كان قد اعتمد على الشقاوات في الإنتخابات وفي إيذاء الشيوعيين المناهضين للنظام الملكي، وكانت مكافأة لهم السماح بالإستيلاء على أحد الكراجات والإستحواذ على مردودها. وإذا كان النظام البعثي قد استفاد من الشقاوات فإنه قام بتصفيتهم لاحقاً، ولم يسمح بنمو ظاهرة العنف خارج نطاق الدولة التي تعزّز توجهها الشمولي الكلّاني منذ اليوم الأول.
طرائف ومفارقات
يستذكر السعيد بشغف مرور سيارة الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله خلال ذهابهما أسبوعياً وفي يوم الجمعة إلى المقبرة الملكية، وكيف كان يصطف الجميع على جانبي الطريق ليقوم الملك الشاب بالتلويح لهم. جدير بالذكر إن الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله قتلا يوم 14 تموز /يوليو/ العام 1958 وتمّ التمثيل بجثة الأخير وسحله في الشوارع فيما بعد، وكانت جثته قد تمّ تعليقها لتتدلّى من سطح أحد فنادق الكرخ، حيث اجتمع الناس ليشاهدوها وترتفع حماستهم لرميها بالأحذية. وكان مهدي السعيد قد شاهد هذا الحادث، مثلما شاهده كاتب السطور وسبق أن كتب عنه لما تركه من تأثير سلبي عليه.
ويستحضرمهدي السعيد حادثة طريفة، وهي كيف إن الجاموس القادم من “جسر الخرّ” والعائد إلى معدان محلّة الذهب، الواقعة على مشارف شارع الشيخ معروف، كان قد عطّل الموكب الملكي، وأحدث نوعاً من الارتباك والخوف، خصوصاً في ظلّ الأوضاع السياسية غير المستقرّة، ولم تفلح سيارات المرافقين وهي تهدر “بالهورنات” (الزمّورات) العالية لانفراج الموقف، حيث كان الجاموس على ما يبدو “يتبختر” بتمهّل وهو يمرّ من أمام سيارة الملك الشاب.
وفي موقف آخر عطّل “مهدي خبالو” مرور سيارة الملك فيصل الثاني، حين حاول قطع خط سير الموكب الملكي دون أن يلتفت لأحد، وكان قد واصل عبوره للشارع ببطيء شديد مع ابتسامة عريضة، واضّطرت حينها سيارة الملك إلى التّوقف ريثما اجتاز “مهدي خبالو” الشارع باتجاه الرصيف، ولم يكن مثل هذا المشهد يمرّ دون ارتباك واستنفار من جانب الشرطة تحسّباً لما قد يحدث.
ثم يعود ليخبرنا من هو “مهدي خبالو”؟ فيقول إنه : معلم وصاحب معشر ومزاج طيب وعلاقات اجتماعية حسنة، ولكن بعض تصرّفاته الغريبة جعلت بعض أصدقائه يتمازحون معه فيلقبونه باسم “مهدي خبالو”، علماً بأن توجّهه السياسي كان قريباً من القوميين العرب، وهو صديق لكاظم شقيق مهدي السعيد الذي كان طالباً متفوقاً في الإعدادية المركزية التي كان لها شأن كبير في الخمسينات، خصوصاً وكانت تحظى باهتمام المسؤولين وكان من منتسبيها أبناء الطبقات العليا والمتوسطة، إضافة إلى المتفوقين في الدراسة، ولعبت دوراً سياسياً معارضاً للنظام الملكي، خصوصاً في انتفاضة العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر وضد العدوان الثلاثي الأنكلو – فرنسي الإسرائيلي.
ويتحدّث عن بعض المحلات الشعبية القريبة من محلّة الدوريين مثل محلّة الذهب التي كانت تضمّ بعض بيوت الدعارة، ولا ينسى أن يروي لنا تفاصيل المجزرة التي تعرضّ لها المومسات في إحدى الصباحات حين فاق الناس ليشاهدوا كيف تمّ ذبحهن، وقد قام هو بفضوله ودهشته الطفولية بمشاهدة سبع جثث مقطوعة الرؤوس ملقاة على الأرض وبقع الدماء تحيط بها من كل جانب، حيث هرع مع أطفال المحلّة بعد ذيوع الخبر.
وفي غمرة ذلك يحدثنا السعيد عن الفرق الرياضية الشعبية وكيف لمع نجم اللاعب الشهير “ناصر جيكو” في الخمسينات ومحمد راضي في الستينات وغيرهم.
وفي المذكرات يتناول مظهراً آخر يلتجأ إليه بعض العاطلين عن العمل، والهدف الحصول على ربح سريع ودون بذل جهد، ألّا وهو لعبة “السي ورق” المشهورة التي يستدرج إليها السذّج والمغفلين.
وبعد ذلك يصوّر لنا ساحة المتحف التي تعجّ بالمسافرين والمارّة، وهناك ألعاب السحرة والقردة ومربي الأفاعي والعقارب، والحلاقين الذين يفترشون الرصيف، وكانت أخته الكبرى شريفة تصطحبه معها باستمرار لحلاقة شعر رأسه في الساحة وعلى الطريقة الشعبية.
ويستذكر مهدي السعيد بعض المشاهد التي ستبقى عالقة في ذاكرته، منها : منطقة اسمها “جولة أم عليوي”، وهي كما يقول كانت مسرحاً لطفولته، وفيها عدداً من بيوت الأغنياء بينهم “أمين خاكي” أحد أبرز القادة العسكريين، وهو عراقي من أصول تركية، وهكذا كانت تتجاور الأصول الاجتماعية في المحلّات البغدادية. وتضمّ المحلّة أيضاً الكتاتيب ومن أشهر الملّايات “الملّه قادرية” التي تعلّم على يدها مبادىء القراءة وحفظ بعض صور من القرآن قبل ذهابه إلى المدرسة.
وبالقرب من المنطقة كانت دار الإذاعة في الصالحية حيث كان مهدي السعيد طفلاً يقتنص النظر إلى بعض المطربين مثل حضيري أبو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم وعبد الصاحب شرّاد، وبعد العام 1958 يقول كنّا نرى مصطفى جواد وشمران الياسري (أبو كاطع) وغيرهما يترددون على دار الإذاعة. أما عزيز علي المطرب المعروف فقد كان يتحاشى الجلوس في المقهى كما يقول.
شيوعيو محلّة الدوريين
ويمضي مهدي السعيد في سرديته ليتناول عمل الحزب الشيوعي في محلّة الدوريين والمحلات المجاورة، وكيف كان عبدالأمير عباس “أبو شلّال” يستخدم “الدراجة الهوائية” في حركته وتنقلاته. وكان قد أصبح في وقت لاحق عضواً مرشحاً للجنة المركزية، وحين انفرط عقد الجبهة بقي أبو شلّال في العراق وعاش في ظروف بالغة القسوة.
وقد حدثني سعد البزّاز حين انتقل إلى لندن وأصدر بعد حين “جريدة الزمان”، أن كتاباً جاءه من رئاسة الجمهورية يطلب منه الاتصال بعدد من الشخصيات والطلب منها الإدلاء بتصريح ضد “العدوان الثلاثيني” العام 1991، أي بعد غزو القوات العراقية للكويت العام 1990 وانسحابها إثر حرب قوات التحالف ضدّ العراق، التي بدأت 17 كانون الثاني (يناير) العام 1991 وانتهت في 26 شباط (فبراير) من العام ذاته.
وحسبما نقل لي البزّاز فقد أرسل أحد الصحفيين ومعه مصوّر (وكان البزّاز حينها رئيساً لتحرير صحيفة الجمهورية) واستدلّ الصحافي والمصوّر على البيت، لأن عنوانه كان قد جاء من ديوان الرئاسة، ووصلوا إليه وفوجئوا برجل مهاب وكبير السن ويبدو على مظهره أنه خارج دائرة السياسيين المعروفين، وحين طلبوا منه الإدلاء بتصريح، اعتذر معلّلاً ذلك بأنه لا يفقه بمثل هذه الأمور، وعليهم أخذ آراء الخبراء والمختصين وأساتذة الجامعة في حين إنه صاحب دكان صغير يبيع فيه بعض احتياجات العمل اليومي المنزلي. فواجهوه بأنه سياسي وقيادي في الحزب الشيوعي، فقال لهم “كان زمان” وإنه نسي كل شيء.
وهكذا تملّص أبو شلّال الذي لفّ رأسه باليشماغ من الظهور أمام الشاشة أو عدسة المصوّر كي لا يفسّر الأمر بأنه تنازل أو ما شابه ذلك مع إنه قال لهم أثناء الحديث إن الناس جميعاً ضدّ العدوان الثلاثيني. وهنا بدأت حيرة البزّاز، فماذا سيكتب للرئاسة ؟ هل سيقول إنه رفض. أو امتنع أو اعتذر ؟ والتفسيرات والتأويلات ستكون غير مقبولة وستجلب معها مشكلات للرجل، وببراعته كتب ما معناه : إن الرجل بلغ من العمر عتيّا، وهو منشغل بقوته اليومي، فضلاً عن ذلك، فهو بسيط ولا يمكنه التعبير، كما أن وضعه الصحي بائساً. وبذلك كان أبو شلّال بمنأى عن استجواب أو إعادة استذكار أو تبعات أخرى.
كما يحدثنا مهدي السعيد عن فتح محل لكيّ الملابس، ويبدو إن المحل كان محطة حزبية استخدمها حسن عوينه القيادي في الحزب الشيوعي وعضو لجنة الارتباط، وقد قتل تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 في قصر النهاية، وأذيع خبر استشهاده مع سلام عادل ومحمد حسين أبو العيس يوم 7 آذار (فبراير) 1963. ويقول مهدي السعيد إنه تعرّف على حسن عوينه بعد نشر صوره في وقت لاحق.
ويذكر أيضاً أن الطبيب الشيوعي فاروق برتو افتتح عيادة له، وهو شقيق بشرى برتو وهي قيادية أيضاً في الحزب الشيوعي، وزوجة رحيم عجينة القيادي في الحزب أيضاً، حيث كان قد خصّص أحد أيام الأسبوع مجاناً لعلاج المراجعين، ولاسيّما من الفقراء وضعيفي الحال، ويقول جرت محاولات لدهم عيادته من جانب شرطة التحقيقات الجنائية لأن صيته كان قد ذاع وعرف الناس إنه ينتمي إلى الحزب الشيوعي، ولذلك انبروا للدفاع عنه تلقائياً.
ومن الشخصيات التي يتناولها أيضاً عطشان ضيول (الإيزرجاوي) الذي كان مسؤولاً في الخط العسكري للحزب الشيوعي، وقد سكن مع والدته بعد انتقاله من الناصرية في محلّة الدوريين، وإنه أصبح بعد ثورة 14 تموز (يوليو) مساعداً لآمر المقاومة الشعبية طه البامرني، وكان من دعاة الإستيلاء على السلطة أيام حكم عبد الكريم قاسم، ويقول أن ثابت حبيب العاني وعامر عبدالله وآخرين كانوا ضدّ هذا التوجه، وقد فتح هذا الموضوع مع العاني في لندن مستذكراً الإيزرجاوي، كما سأل عنه آرا خاجادور في براغ.
ويروي السعيد نقلاً عن آرا خاجادور إن اللجنة المركزية حينها أبعدت سلام عادل إلى موسكو الذي كان يميل إلى استلام السلطة وإزاحة عبدالكريم قاسم، ويقول إن ذلك كان جزء من الصراع حول السلطة بين تيارين : الأول ممثلاً بمجموعة الأربعة : زكي خيري، عامر عبدالله، بهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس وإن كان الأخير أقرب إلى سلام عادل، لكنه احتسب على الجماعة المتكتلة حتى وإن لم يتفق معها فكرياً (وقد استشهد تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط/فبراير/ 1963) و كان هؤلاء ضد توجّه سلام عادل وجمال الحيدري وعطشان ضيول، والأخيرأبعد إلى موسكو ومنعه ال KGB من الإتصال بالآخرين، ويروي قصته الدرامية حيث توفي في ألمانيا.
ثورة 14 تموز
يتحدث مهدي السعيد عن يوم ثورة 14 تموز وشعوره عند هدم تمثال الجنرال مود الذي قال حين احتل بغداد “جئنا محرّرين لا فاتحين”، ويذكر كيف هرب نوري السعيد ولجأ إلى بيت الإستربادي في الكاظمية، وكيف دخل هو ووالدته إلى بيت نوري السعيد. ثم يتناول كيف أسّس الشيوعيون التنظيمات سريعاً مثل الشبيبة الديمقراطية والمقاومة الشعبية.
ويستعيد مهدي السعيد أيام تموز والمهرجانات، وكيف صافح عبدالكريم قاسم وكذلك الملّا مصطفى البارزاني، ولكنه يتناول بمرارة الإنقسام الشعبي، ولاسيّما بين الشيوعيين والقوميين، خصوصاً بعد حركة الشواف ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في منطقة “رأس القرية” بشارع الرشيد، وكان من بين من شاركوا بها صدام حسين، وينشّط ذاكرته بحديثه مع د.تحسين معلّه، خصوصاً عن قضايا التعذيب في قصر النهاية.
ومن مظاهر اشتداد حالة الإحتقان الشعبي اغتيال الشيوعيين أحد الأشخاص وسحله في مدينة الكاظمية، وقد اتهم بها منذر أبو العيس الذي صدر الحكم بإعدامه، وقد تمّ تنفيذه بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963. ويشير إلى أن محلّة الدوريين كانت تعجّ بالخلافات. ويتوقف عند انقلاب البعثيين الأول الذي أطاح بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم وطارد الشيوعيين واعتقل الآلاف منهم وكيف جرت محاولة لإعتقال أخيه كاظم.

أول مهمة حزبية
وعن أول مهمة حزبية له كانت عشية حركة حسن سريع في 3 تموز (يوليو) العام 1963، وهو نائب عريف حاول قيادة انتفاضة مسلحة ضد حكم البعث الأول، لكنها فشلت واعتقل المشاركون فيها وحوكموا وأعدموا.
أما المهمة التي كلّف بها فهي كتابة بيانات بخط اليد على ورق الكاربون، وكان المسؤول عن المجموعة حسبما يقول “محمد كريم” الذي أعدم في حركة حسن سريع، لينتقل بعدها إلى عمل حزبي منظّم، وخصوصاً بعد انشقاق القيادة المركزية ويستعيد العلاقات في تلك الفترة، ويستذكر عدد من المسؤولين بينهم كاظم حبيب، وكيف ساهم عدد من الرفاق في إعادة التنظيم منهم: حسن أسد الشمري وصلاح زنكنة وحميد برتو ولؤي أبو التمّن وسعد الطائي وطه صفوك وكاتب السطور وآخرين، ويقول إنه تم تشكيل فرقة حزبية صدامية ويروي حادثة مقتل سامي مهدي الهاشمي في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية. وكنت قد رويت في أكثر من مناسبة موضوع تصدّع علاقتي بالحزب بسبب هذه الحادثة وحوادث أخرى حدثت في كردستان لتعذيب شيوعيين على يد رفاقهم.
ويستعرض السعيد خلال هذه الفترة عدداً من الأحداث العامة والخاصة منها اعتقال شقيقه سعدي (المرة الأولى حين كان لا يزال في بغداد، ثم يذكر اعتقاله لمرّة ثانية حين غادر هو بغداد) وسفره بعد حصوله على زمالة دراسية، ليصل إلى محطته الجديدة “براغ”.
يقول عن براغ أنها مدينة الأحلام، لكن أحلامه كادت أن تطير لأن زمالته مُنحت إلى شخص آخر، وكان عليه الإنتظار لبضعة أشهر، وحصل الأمر كذلك مع رفيقه محمد الأسدي ريثما يتم قبولها بعد بضعة أشهر، ويتحدث عن معاناته خلال تلك الفترة وعلاقاته مع الطلبة مثل حسون الربيعي وعلاء صبيح وسلمان الحسن وفؤاد زلزلة، وعن مقهى سلافيا والعلاقة مع الملحقية الثقافية، ولاسيّما مع عبد الستار الدوري (الملحق الثقافي)، ويستذكر حادثة حصلت لعلي صالح السعدي الذي حضر حفلاً بمناسبة الذكرى الثانية لبيان 11 آذار (مارس) لعام 1970 وكان بصحبة السفير محسن دزئي، وكان من الحاضرين عبد الستار الدوري ومهدي الحافظ وموسى أسد وكاتب السطور الذي كان رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين وآخرين، وكان السعدي قد أطرب للمقامات البغدادية التي أدّاها علاء صبيح، وحاول مصافحته، ولكن الأخير امتنع عن ذلك وحين سأله لماذا؟ أجابه بأن يديك ملطّختان بالدماء وقد احتدّم الموقف، وحاول دزئي ورفاقنا احتواءه.
وبعد قبوله وانتقاله إلى مدينة أخرى لدراسة اللغة، ثم دراسته في كلية الزراعة، سلّط ضوءًا على حياة الطلبة والأجواء الاجتماعية السائدة وهي ذكرتني برواية “الجليد” لصنع الله إبراهيم التي كتبها عن فترة دراسته في موسكو (1973) وهي فترة مقاربة لما عاشه مهدي السعيد في براغ، وفي الرواية وأحداثها ثمة بحث عن الذات وعن المرأة وعن الجمال.
بين براغ وبراغ
ثم يتناول السعيد بعد ذلك المقطع الفاصل بين المرحلتين، أي بين براغ وبراغ، حين غادرها أول مرّة عائداً إلى العراق أدى خدمته العسكرية الإلزامية في أجواء من القلق والخوف الذي رافقه، وكيف تمكن من التخلص من استحقاقات خطرة، قد تؤدي بحياته، فكما هو معلوم كان العمل السياسي محرّماً في الجيش، كما إن الانتساب إلى حزب آخر غير حزب البعث قد يؤدي بصاحبه إلى الإعدام، وهي مشاعر عاشها الكاتب نفسه الذي التحق في فترة مقاربة لفترة السعيد لأداء الخدمة الإلزامية وكاد حبل المشنقة أن يلتف حول رقبته.
وفي غمرة ذلك لا ينسى أن يذكر بعض الطرائف، منها إنه حين كان خفراً كان من مسؤولياته “سجن المعسكر” وكيف طلب منه السجناء تنظيف السجن، وقد وافق على ذلك لأنه كان قذراً للغاية والرائحة الكريهة تنبعث منه، وكان قد نُصح بأن يكون يقظاً كي لا يهرب أحد السجناء واسمه “صدام” وكان متهماً بقتل أحد أبناء منطقته، وطلبوا منه مشاهدة التلفزيون وتعهدوا أمامه بعدم الهرب وفعلاً تم ذلك، وحين عادوا جميعهم افتقد إلى وجود صدام بينهم، وهكذا يقول “سيطر عليّ الخوف، ووقفت صامتاً أضع يدي على خدي وعيناي تتجهان إلى السماء”، ولكن بعد قليل ظهر صدام وكأنه جاء من وراء غمامة سوداء ودخل السجن، وفي اليوم التالي هرب الجندي “صدام” بعد أن استلم الخفارة أحد جنود الصف المكروهين كما يقول.
لقد عكست مذكرات مهدي السعيد، في بعض محطاتها حياة مسكوت عنها بما فيها من خفايا وعقد ومشاكل اقتصادية واجتماعية وثقافية في الإطار السياسي الذي عمل فيه أو في الدولة الاشتراكية التي عاش فيها نحو عقدين من الزمان، وهي تكشف جذور الانهيار اللاحق، دون إنكار الإيجابيات بالطبع مثل كفالة الدولة لحق التعليم وتكاليفه وتوفير مستلزماته من السكن والمنحة، إضافة إلى التأمين الصحي وغير ذلك، لكن هناك شعور بالإجحاف والغبن لدى فئات واسعة، ناهيك عن شحّ الحرّيات وانتهاك حقوق الإنسان، فضلاً عن غياب التعدّدية وعدم الإقرار بالتنوع وحرّية التعبير. وقد كان لسيادة العقلية الستالينية البيروقراطية الأوامرية سبباً آخر في تراجع الأحزاب الشيوعية والماركسية، بل وجميع الأحزاب الشمولية بما فيها أحزاب الفرع في المشرق العربي، سواء من كان منها في السلطة أو من كان خارجها حتى وإن كان من ضحاياها.
وفي براغ يتحدث عن لقائه الأول بالجواهري ثم علاقته به، وخصوصاً عبر ابن شقيّقه رواء الجصاني الذي ربطته به علاقة وثيقة ومع عائلته أيضاً، ويذكر تحت عنوان لحظات مع المبدعين عن لقائه مع عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وعز الدين المناصرة وسميح القاسم الذي رافقه برحلة إلى برلين لحضور مهرجان للطلبة العراقيين وعن قيادته لخلية المثقفين التي ضمّت : مفيد الجزائري وحسين العامل وجيان (يحيى بابان) وقادر ديلان وغريب الكروي (أبو وجدان) وصبري كريم (أبو شيرين) وحمزة رجبو.
ويتناول بعض صداقاته في براغ لا سيّما مع موفق فتوحي وحميد برتو وفيصل اسماعيل وسميرة البياتي وحميد الدوري والعلاقة بين البعثيين والشيوعيين التي انتقلت من التحالف إلى العداء.
وعن حياته في لندن يقول كانت أولى العوائل العراقية الأولى التي تعرّف عليها هي عائلة يعقوب قوجمان “أبوسلام” الشيوعي العراقي العريق، وهو صديق رفيقة عادل مصري والد “سرود” الذي عمل معه في لجنة التنسيق الطلابية ويتحدث عن عمله في إذاعة كل العرب مع نجم عبد الكريم وعلاقته الوطيدة مع نبيل ياسين الذي كان قد عيّن رئيساً لتحرير جريدة “المؤتمر”، وكيف بدأ يتعرف على المعارضة العراقية بشخصياتها المختلفة.
وهكذا بدأت دائرته تتّسع وأفقه يمتد، الأمر الذي عرّضه لإنتقادات حزبية، وفضل هو محيطه السياسي وعمله مع المعارضة على الانتماء الضيق.
وينقل كيف اضطر إلى الإستقالة من عمله في إعلام المؤتمر الوطني العراقي قبل ذلك بعد أن جمد الحزب الشيوعي عضويته فيه (العام 1994) ويقول : “أصيب الكثير من الشيوعيين العراقيين العاملين في المؤتمر بالإحباط، لأن المشكلة لا تتعلّق بتمويل المؤتمر، فالشيوعيون حين انضموا إليه كانوا يعرفون جيداً الجهات المموّلة له مسبقاً، فلماذا إذن وافقوا على الإنخراط فيه؟”
وبقي بلا عمل ويقول : “انطويت على نفسي لبعض الوقت، ولكني فكرّت من جديد بالعودة إلى عملي السابق… كحل وسطي ينقذني من حالة البطالة” واتصل بعامر عبد الله الذي أبلغه أنه ارتكب خطأ كبيراً، لأن الحزب لازال بعلاقات قوية مع قيادة المؤتمر، وقام عامر عبد الله الاتصال بأحمد الجلبي رئيس المؤتمر الذي أوعز إلى محمد عبد الجبار بإعادتي إلى العمل.
ويحدثنا عن الكثير من المفارقات حول عمله في إعلام الوفاق (إياد علاوي) وإصداره “مجلة المسلّة الثقافية” بمشاركة عربية وبدعم من نبيل ياسين ولقاءاته مع ابراهيم الجعفري والقيادات الكردية،
ويستعرض علاقاته مع المعارضة العراقية بحضوره مؤتمر لندن ومؤتمر واشنطن، حيث التقى بجلال الطالباني ومسعود البارزاني وإبراهيم أحمد. وينقل عن لقاء مع وزارة الخارجية الأمريكية، وضمّ الوفد : حميد الكفائي وعبد الحليم الرهيمي ومهدي السعيد وإسماعيل زاير وأحمد الركابي و شميم رسّام وربيع وعدد آخر بينهم أكراد، وكان من جانب وزارة الخارجية عدداً من المسؤولين بينهم سحر وهي سيّدة فلسطينية بالأصل وهي مسؤولة عن الملف العراقي.
وكان هناك سؤال طُلب من الجميع الإجابة عنه وهو : ماذا سنفعل بالبعثيين ؟ وكان الجواب جماعياً “اجتثاثهم من الحياة السياسية وإبعادهم عن أية مهمة” و “معاقبة القياديين بأقصى درجات العقوبة بما فيها التصفيات الجسدية” ويعلّق مهدي السعيد بالقول : من جانبي وجدت هذا الموقف غير معقول… ونحن لسنا قصّابين للبشر، ولا نبحث عن الانتقام، و البعثيون في كل الأحوال “مواطنون عراقيون” وعلينا التعامل معهم بروح التسامح، أما من قام بالارتكاب فمن حق القضاء أن يأخذ مجراه (وقد دققت هذا الموقف معه وأكّد لي ذلك بالنص المنشور).
ويبدو إن موقف شميم رسّام كان قريباً من هذا الموقف، وقد قاطعها أحد الأكراد كما يقول، واعترض على وجودها لأنها محسوبة على النظام البعثي وسبق أن رافقت طارق عزيز وعملت مترجمة للوفد العراقي فأجهشت بالبكاء، ويواصل مهدي السعيد حديثه وأنقل هذه الفقرة لدلالتها بقوله :” إن سيامند البنّا أخبرني بعدم رضا الأمريكان عن أطروحاتي، فتفاجئت لأنني سمعت منهم تقييمات إيجابية مباشرة عديدة لتحليلاتي”.
ويذكر إن لهذه الحادثة تداعياتها ويتساءل : هل كان هناك ثمّة تدخّل خارجي لا أعرف مصدره إلى الآن ؟ ويترك هذا السؤال بلا جواب، إذْ بعد الاحتلال كما يذكر حصل جميع المشاركين على مراكز مهمة وبعضهم أسندت إليهم رئاسة صحف أو إدارة إذاعة أو رؤساء للجان انتخابية أو مهمات استشارية ثقافية، وهناك من أصبح ناطقاً باسم الحكومة أو مديراً لإحدى الفضائيات وإنه الوحيد الذي على ما يبدو (أغضب الأمريكان) فاستبعدوه ؟
وحسبما يقول كان نوري البدران (الذي أصبح وزيراً للداخلية بعد الاحتلال) قد سأله قبل الغزو الأمريكي بعدّة أسابيع أي وظيفة تريد، فأجابه : الاشتغال بالسلك الدبلوماسي، وحبذا لو كان في براغ، أو جامعة الدول العربية أو عمادة إحدى الكليات العراقية، فأبلغه البدران يجب إطلاع إياد علاوي على الموضوع. وطلبوا منه الذهاب إلى عمان تحضيراً للدخول إلى العراق.
وفعلاً أرسلوا له تذكرة السفر. ثم أخبره أننا سندخل بملابس عسكرية مع الأمريكان، ويذكر مهدي السعيد إنه حين سمع ذلك توقف قليلاً ويعلّق مهدي بحرارة بقوله : ولكنني لم أتحمل مثل ذلك.. وقد استحضر كل تاريخه السياسي “فأجبته بأني لا أدخل مع الأمريكان بملابس عسكرية، وإنما أدخل لوحدي كمدني”. وهنا قال له البدران أنت لا تريد أن تأتي معنا، فكرّر عليه قوله، وفي اليوم التالي : أعاد التذكرة إلى السكرتيرة إيمان وتفاجأت بذلك، ولكن طبعاً لم أتفاجأ، كما يقول.
دمشق والأسرة الجديدة
ظلّ مهدي السعيد مضرباً عن الزواج حتى استقطبته دمشق، بل احتضنته، فتذكّر أيام دراسته الأولى لبضعة أشهر، ولكن هذه المرّة لم يكن من بد إلّا وعقد زواج مع رفيقة أرادها أن تكون مواصلة لحبه القديم لدمشق. كان سعيداً للغاية بهذه العلاقة وأنجب طفلتين، لكن زوجته تعرّضت إلى متاعب غير قليلة بسبب الأحداث التي حصلت في السنوات الأخيرة، فلم يستطع سحبها إلى لندن ولم يتمكن هو من الإقامة في دمشق، وهكذا ظلّ معلقاً بين دمشق ولندن.
وكما يقول الموسيقار شوبان : “القلب في وارشو والعقل في باريس” فقد كان قلب مهدي السعيد في الشام وعقله في لندن. لم يعرف ما كان يخبئه له الزمن، فقد أصيبت زوجته بالسرطان ولم ترخّص لها السلطات البريطانية الالتحاق به في لندن إلّا في العام 2016، ولكن بعد وصولها ببضعة أسابيع دخلت المستشفى ولم تخرج منها، وتلك كارثة أخرى حلّت بمهدي السعيد.

كتاب لذاكرة مفتوحة
في الختام، أقول إنني قرأت مذكرات مهدي السعيد وسيرته الذاتية، كأنها كتاب مفتوح أمامي. ويستطيع كل إنسان أن يقرأها بطريقته، إذْ لا أقفال فيها أو ألغاز، فقد كتبها بلغة سلسة وبانتقالات سريعة وعناوين فرعية جاذبة.
يمكنني القول أن مذكراته جاءت على شكل أمواج، فتارة صاعدة وأخرى نازلة، لكنها في كل الأوقات متحرّكة وغير ساكنة، وقد حاول فيها أن يواخي الحبر مع الذاكرة واللون مع الفرشاة والعدسة مع العين، لذلك جاءت حارّة وطازجة وامتازت بروح إيجابية بشكل عام، حملت إشارات فرحة وإن تخلّلها حزن دفين أيضاً.
إنها مذكرات تستحقّ القراءة والنقد والتقريظ لما زخرت به من أحداث وتجارب ودروس تتطلّب التفكير ليس بأوضاع الحاضر فحسب، بل بالمستقبل أيضاً، خصوصاً أن التاريخ حلقات متّصلة لا يمكن فصل الماضي عن الحاضر والمستقبل.