23 ديسمبر، 2024 1:02 م

من يوميات ممرض عراقي

من يوميات ممرض عراقي

قصة
في اواخر القرن العشرين, كان هناك اناس ينعمون ويرفلون بمكرمات الحروب ومكرمات قائد الحروب,  وقد حصل الكثير منهم على هذه المكرمات التي ذهبت بهم الى جنات ألخلود . واذكر (مرة) انّي كنت في زمرة من المضمدين العسكريين الذين لا يخلو وسطهم من خريجي اعداديات التمريض ومعاهد الطب  بل وحتى الجامعات . لا زلت اذكر اننا كنّا نعمل تحت امرة طبيب عسكري برتبة نقيب, يدعى محمد الشمري . اما سبب استذكاري احوال تلك الايام واحداثها من بين مئات الايام البشعة والقاسية التي شهدتها, فهذا يعود الى صورة رأيتها في المقبرة الجماعية الصغيرة الكائنة بين عشرات المقابر الجماعية الكبرى والصغرى . امرأة لم يزل نعلها المقطوع يُمسك عظام قدميها بينما يختبئ هيكل عظمي صغير لطفل لم يتجاوز الثامنة تحت جناحها الايسر وهيكل عظمي لطفلة اكبر بقليل من أخيها الهيكل العظمي . هذه الصورة ادخلتني معركة الاستذكار والاستطلاع – مع اني لا اطيق حتى النظر الى بيت توفي فيه أحد), الأمر الذي استفزني واعادني الى ما سوف احدثكم عنه, ليس صورة هذه المرأة, بل هيكل عظمي لفتاة او امرأة, لا ادري بالضبط ما كانت عليه بكارتها,  ولكن هذه الفتاة لا زال هيكلها العظمي يحتفظ بأداة قتلها, حيث حشرت ماسورة بلاستيكية بين فخذيها  (في بوابة خروج الانسانية) اي في الطريق الذي خرجت منه كل الانسانية ما عدى آدم وحواء . ويبدو ان الماسورة قد مزقت (بيت الخلق) الرحم وعلى من يجد في نفسه القدرة على الاستمرار في التصور والتخيل يستطيع قياس آلام وبشاعة الجريمة التي ارتكبت عام 1991 في مدينة الحلة  محافظة بابل  . عندما تتكرر الاحداث يتراجع المستقبل ويتقدم الماضي ويصبحا على شكل دائرة.
اليوم في المفرزة الطبية احضروا لنا سيّدة مع  اربعة اطفال صغار أكبرهم لم يتجاوز الثانية عشر, الجميع كانوا اموات , ولا يشك بموتهم , اذ اخترقت اجسادهم بعض الشظايا بل واقتطعت اجزاء من اجسادهم الغضة فصار من يراهم يشيح بوجهه بعيدا عن منظرهم لما يولده هذا المنظر من الم فضيع تحدثه بشاعة الجريمة . من نتف الحديث الذي استمعت اليه عرفت والذين معي ان طائرة اميركية قامت بهذا العمل, ولو اكتفيتُ بهذا الخبر ولم ازد عليه اكون قد تجنبت الحقيقة المجردة , وللأمانة الخبرية اذكر ان أحد اقرباء السيدة قال لي : ان الجيش ويعني به الجيش العراقي قد اخفى احدى طائراته قرب بيت السيدة, ويبدو ان الأعداء علموا المكان فقصفوها بجحيم هائل مزق كل شيء , الطيارة المختبئة والبيوت والناس, لا بل حتى قشرة الارض وجذوع الاشجار .. هذه حال الحرب .!  لم اصل بعد الى بيت القصيد كما يقول العرب ولأصل الى بيت القصيد ابدأ بجملة يعرفها اهل الطب وغيرهم كأهل الدين وهي (لا حياء في الطب) وكذلك فعلنا مع السيدة فقد فتشنا جسدها من رأسها حتى أخمص قدميها, فلم نجد اي مكان لاصابة او جرح فيه . ولم يبق الا مكان واحد خالفنا به حكمة او مقولة اهل الطب.. حيث منعتنا اشياء ما, لا ادعي بأنها رفعة اخلاق او وازع ديني او ضمير, فكل هذا أعفي منه صاحب مهنة الطب, ناهيك عن ان اغلبنا قد خرق القوانين هذه, عن دراية او غير دراية . عندها طلبنا من أخي السيدة الذي جاء  يرافقها, فحص هذا المكان الذي لا تتعدى مساحته كف اليد.. او تزيد قليل.. ولا ادري ان قام بالفحص فعلا ام لا.. ولكنه عاد بعد دقائق ليعلمنا ان لا دليل على اصابة شقيقته ولكن كيف هذا والمرأة صفراء البشرة تتنفس بصعوبة وببطء شديدين ..!؟ كررنا التفتيش ولكن دون جدوى.. وبذلك قمنا بارسال السيدة الى مستشفى مدني وجهزنا القتلى الصغارلمثواهم الاخير, وعندما قررنا تسليمهم الى ذويهم لم نجد احدا يستلمهم , فبقوا لأكثر من عشر ساعات . حضر بعدها خالهم الذي عاد من المستشفى المدني ليخبرنا ان السيدة (اخته) قد ماتت وان الاصابة هي نفاذ شظية صغيرة جدا من اسفل قحفة الرأس من جهة الخلف الى المخ حيث كان يغطي الشعر مكان الاصابة التي لم تنزف دما الى الخارج.. وسمعته يتمتم بقوله (لقد انطفأت هذه العائلة) فالأب قتل عام 1985 في معركة شرق البصرة, فعز على (بوش) ان يترك الاطفال وأمهم بعد أبيهم فكافأهم من حضارته المدنية,  الحرية المطلقة حيث لا جوع ولا فقر ولا تمييز كما يعاني البعض  في هذه الحياة . لم اذكر بعدها ما قاله حيث شغلت بمكرمة اخرى من مكارم الحروب والقائد التي لم تنقطع طوال عقدين .
اليوم انا تجاوزتُ العقد الخامس من عمري ولمّا ازل اعمل في ميدان الطبابة , ولكن الطبابة المدنية وليس العسكرية كما كنت من قبل . وقفت امامي شاحنة ذات حمولة ( 2 طن ) محملة بلحم بشري ( ايدي, افخاذ, رؤوس, بطون, احشاء, اكتاف , نصف جسد, جسد ناقص رأس , اقدام , اكف …. ) لحم بشري من كافة الاعمار ومن الجنسين , اثار انتباهي وجه بلا جسد , وجه مبتسم وكانه يتسلم جائزة كبرى فعلمت انه ( الاستشهادي) وقد كانت ابتسامته فرحا بلقاء الرسول محمد وتناول الفطور معه صباح هذا اليوم , ولكني صدمتُ حين لمحت بين الرؤوس رأس حمودي , حمودي ولدي الصغير الذي غالبا ما ترسله امّه ليجلب لها الخبز من المخبز القريب من دارنا , فقدت التوازن , احتظنت الرأس وصرت امعن النظر فيه : ( نعم انه حمووووووووودي …… حمووووووووووووووووووووووووووووووودييييييييييييي  ) مع اني فقدت التركيز الا اني رأيتُ الرعب والخوف على وجه حمودي ذي العشر سنوات فعلمت انه مرعوب من رؤية نار جهنم التي جلبها له ( الاستشهادي ) من صحراء الاعراب