شهدت الاوضاع الامنية في محافظة الانبار خلال البضعة ايام الماضية تغيرات دراماتيكية سريعة، اعتبرها البعض متوقعة، في حين نظر اليها البعض الاخر على انها تمثل تداعيات خطيرة ومقلقة، لاتنحصر اثارها وتأثيراتها السلبية على الانبار وحدها، وانما تمتد الى مدن ومحافظات اخرى، ابرزها العاصمة بغداد وكربلاء المقدسة.
واذا لم تثر سيطرة تنظيم داعش الارهابي في وقت سابق على مناطق متفرقة من الانبار، ومعها تزايد موجات النزوح من المحافظة الى محافظات اخرى، مايكفي من القلق والخوف مما سوف تفرزه تلك الاحداث من وقائع وتداعيات ومعطيات جديدة، فأن هجوم داعش على المجمع الحكومي في مدينة الرمادي-مركز الانبار-واحكام السيطرة عليه، ومن ثم السيطرة على مقر قيادة عمليات الانبار بطريقة بدت مشابهة الى حد كبير لما حصل في محافظة نينوى قبل احد عشر شهرا، كان بمثابة قرع ناقوس الخطر الحقيقي الذي تلقاه اصحاب الشأن، كما لو انهم كانوا مستغرقين في نوم عميق وجاءهم زلزال مدوّ قضّ مضاجعهم.
الى ماقبل ايام قلائل، لم يكن هناك مايشغل عددا غير قليل من الساسة والمسؤولين وشيوخ العشائر في الانبار، او في اطار المكون السني على وجه العموم، شيء اكثر من قطع الطريق امام الحشد الشعبي وعدم السماح له بدخول الانبار بغض النظرعن الواقع القائم، وبغض النظرعما يمكن ان ان يحصل فيما بعد.
ولعل محاولات تحجيم وتهميش الحشد الشعبي بدأت مع المكاسب والانتصارات المهمة التي حققها في محافظة صلاح الدين خلال شهري اذار ونيسان الماضيين، وكان من بين ابرز مصاديقها وتجلياتها، الحملات الاعلامية والسياسية التسقيطية، التي ساهمت فيها منابر سياسية ووسائل اعلام داخلية وخارجية، عملت على تصوير الحشد الشعبي، وكأنه عبارة عن عصابات قتل وسلب ونهب، استباحت الحرمات والاعراض في المناطق التي تحررت من داعش.
والخطوة الاخرى تمثلت بالوفود السياسية والعشائرية، وبمستويات مختلفة، التي راحت تتقاطر على عواصم دولية واقليمية وعربية، من بينها واشنطن وانقرة وعمّان والرياض والدوحة وابو ظبي وغيرها.
والمطاليب المطروحة كانت واضحة ومحددة، والمطلب الاول هو اعتبار الانبار، كما هو الحال، مع نينوى، خطا احمر امام الحشد الشعبي، او بتعبير اخرى ابعاد المكون الشيعي عن حدود وجغرافيا المكون السني، وبالتالي عدم السماح بتمدد النفوذ الايراني الى جهة الغرب. والمطلب الثاني تسليح ابناء المكون السني، سواء من قبل الحكومة الاتحادية او من قبل الاطراف الخارجية المعنية. والمطلب الثالث، ان يتولى التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة الاميركية ادارة العمليات العسكرية لتحرير الانبار من تنظيم داعش، والمطلب الرابع، المساعدة في تشكيل واقامة الاقليم السني على غرار اقليم كردستان.
وكل الوفود التي ذهبت الى العواصم المشار اليها، لاسيما الى العاصمة الاميركية واشنطن، حاولت استدرار عطف الاميركان، من خلال التباكي على مظلومية المكون السني، والاخطار التي تواجهه في اطار المعادلات السياسية القائمة في العراق، واكثر من ذلك الاخطار التي تواجه المحيط الاقليمي بأغلبيته السنية جراء تمدد واتساع النفوذ الايراني.
والملفت للنظر ان هناك شخصيات مطلوبة للقضاء العراقي، ومدانة في التورط بدعم الارهاب في العراق، مثل القيادي السابق بأتحاد القوى العراقية ووزير المالية في الحكومة السابقة رافع العيساوي، وكذلك محافظ نينوى الذي فر مع الفارين من المحافظة وتركها لتنظيم داعش اثيل النجيفي، زارا واشنطن والتقيا بشخصيات سياسية عديدة هناك وتحدثا في بعض مراكز الدراسات والابحاث الاميركية، بصورة بعيدة عن الواقع الى حد كبير، بحيث بدا انهما يريدان اثارة مخاوف ساسة واشنطن وتحذيرهم من الذهاب الى التعاون والتنسيق مع الحشد الشعبي لتحرير الانبار ونينوى، وتحذيرهم ايضا من الاستمرار بدعم حكومة حيدر العبادي بدون شروط وضوابط وقيود.
اضف الى ذلك، فأن عدد من الساسة وشيوخ ووجهاء العشائر الممثلين بشكل او باخر للمكون السني، اخذوا منذ عدة اسابيع يعملون على اسقاط الانبار بيد داعش، تنفيذا لاجندات معينة، وتؤكد تقارير استخباراتية دقيقة، ان الاوضاع الامنية في الانبار لم تتدهور خلال الاونة الاخيرة بشكل خطير يمكن ان يدفع الاف العوائل الانبارية لترك منازلها وممتلكاتها وتفر بأتجاه بغداد وبابل وكربلاء والنجف ومحافظات اخرى، لولا انتشار الشائعات عن قرب هجوم داعش على المحافظة، ومعها شائعات دخول الحشد الشعبي، ليقوم بأرتكاب نفس الجرائم المزعومة التي ارتكبها في تكريت من قتل وسلب ونهب. الى جانب هذا فأن ذات الجهات راحت تبعث عبر اجهزة الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي برسائل الى قادة وضباط الجيش في الانبار تحثهم فيها على الانسحاب والقاء السلاح، وعدم خوض معركة خاسرة، وقد تسبب كل ذلك بأيجاد حالة من الارتباك والفوضى والخوف، التي دفعت بعض من وصلتهم الرسائل الى ترك مواقعهم، بما فيها من اسلحة واعتدة لداعش، وهذا ماحصل بالضبط لمقر قيادة عمليات الانبار ومواقع اخرى، وفي هذا الشأن طالب مجلس عشائر الانبار بمحاسبة قائدي عمليات الانبار والشرطة بسبب تخليهما عن قيادة المعركة وتركهما رجال الجيش والشرطة يقاتلون من دون ذخائر ويواجهون مصيرا دمويا.
لاشك ان كل المعطيات التي برزت فيما بعد اكدت ان قراءات البعض لم تكن واقعية ولادقيقة، وقراءات البعض الاخر لم تكن منطلقة من نوايا حسنة، وقراءات البعض الاخر، لم تعط الاولوية للاستحقاقات والمتطلبات الوطنية، بقدر ما تمحورت حول مطلبيات فئوية ومناطقية ضيقة، فضلا عن حسابات ومصالح حزبية، بل وحتى شخصية!.
وما يؤكد ويثبت ذلك، ان شيوخ ووجهاء عشائر الانبار طالبوا رئيس الوزراء حيدر العبادي بدخول الحشد الشعبي لمحافظتهم لتخليصها من داعش، ومجلس المحافظة صوّت بالاجماع على دخول الحشد الشعبي، وكبار الشخصيات السياسية والعشائرية السنية من الانبار والمحافظات الغربية، رفعت اصواتها بالنقد اللاذع والحاد لكل من يرفض مشاركة الحشد الشعبي بعمليات تحرير الانبار، واكثر من ذلك فأن عدم صمود بعض قطعات الجيش وابناء عشائر الانبار ولو لساعات قلائل بوجه عصابات داعش، اطلق رسالة واضحة وصريحة جدا مفادها انه بغياب الحشد الشعبي ستشهد الانبار المزيد من التداعيات الامنية الخطيرة، والخسارات المؤلمة بشريا وماديا.
وحينما نوسع دائرة النظر والتقييم لمجمل المواقف، نرى ان الولايات المتحدة الاميركية التي كانت تتحفظ وتعترض على دخول الحشد الشعبي الى الانبار، ترحب بذلك، فوزارة الخارجية الاميركية اعتبرت طلب عشائر الانبار مشاركة الحشد الشعبي في عمليات تحرير الانبار خطوة مهمة لتجاوز الخطوط الطائفية.
في ذات الوقت تؤكد وسائل اعلام غربية عديدة ومراكز دراسات وتحليل معروفة، ان سيطرة داعش على الانبار اثبت فشل الاستراتيجية المتبعة من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، وطبيعي ان الفشل سواء كان مقصودا ام غير مقصود، يعني لابد من اعادة النظر والمراجعة، والبحث عن خيارات بديلة، ومثلما توصل اصحاب الشأن في الداخل، بأن الخيار الافضل والانجع هو “الحشد الشعبي”، فأن المعنيين والمراقبين من الخارج توصلوا على مضض الى نفس النتيجة!.