في الدول ذات الحكم الراشد , والتي يحكمها المنطق وتُدار بمؤسسات حقيقية لا بهياكل فارغة ، حيث تُدار الدولة بمنطق العقل والخبرة لا بالعشوائية والمزاجيات، تصبح الحياة اليومية أكثر إنسانية وعدلاً… ؛ و يصبح المواطن شريكًا في الوطن لا ضحية فيه … ؛ ففي بلدان العالم المتحضر، حيث تُبنى الدول على أسس الكفاءة وتُدار بسياسات العقل لا ارتجال الفوضى، تكون الدولة خادمة لمواطنيها، لا سيداً عليهم. هناك، يُنظر إلى المواطن كأصل من أصول الوطن، لا كعبء أو مشكلة يجب التخلص منها. ولهذا، فإن كل إجراء إداري — مهما بدا بسيطاً — يُدرَس بعناية، ويُنفذ وفق بدائل مدروسة تراعي الإنسان أولاً، ثم المكان.
هناك، لا تُقتلع مصادر الرزق من جذورها، ولا تُحطم أحلام الفقراء بجرافة باردة لا تعرف سوى أمر “الهدم”… ؛ ففي تلك المجتمعات، حيث تُبنى الحكومات على أسس المؤسسات التخصصية والكفاءات العلمية … ، تُبنى السياسات العامة على فكرة أن لكل مشكلة حلاً، ولكل متضرر تعويضاً، ولكل نشاط اقتصادي بديلًا لائقاً عند الضرورة، فلا يُلقى المواطن في العراء بعد قرار إداري مفاجئ.
فالارتقاء بمعيشة المواطن مسؤولية الدولة لا تهمة تُطارده بسببها… ؛ هناك، في تلك البلدان المتقدمة التي احترمت الإنسان واحتضنت طاقاته، لا تُشن حملات الهدم قبل التخطيط، ولا تُغلق المحال والبسطات والاكشاك قبل توفير البدائل اللائقة … ؛ لأنهم ببساطة يدركون أن الاستقرار الاقتصادي للفرد هو أساس السلم الاجتماعي والتنمية الوطنية… ؛ ففي تلك الدول، لا يُهدم كشك أو تُزال بسطة إلا ويُعرض على صاحبها بديل مناسب… ؛ و لا يُطرد البائع من الشارع إلا إذا أُتيح له مكان في ساحة مرخّصة، مجهزة، تكفل له ممارسة رزقه بكرامة… ؛ فهناك ينعم المواطن والمقيم بالطمأنينة والعدالة… ؛ فالمشكلات تُحل، والخسائر تُعوض، ولا تُزال ملكية أو تُحول أوضاع إلا بوجود بدائل عادلة ومناسبة… ؛ و تشهد الصحف في تلك البلدان ازدحاماً بإعلانات التوظيف بأجور مُرضية، وتنتشر دورات التنمية ومراكز الاستشارة الاقتصادية لتقديم أفضل المشاريع للقطاع الخاص، مدعومةً بحزم حكومية تسهل الطريق نحو النجاح.
ولكن، ما أبعد المسافة بين ذلك النموذج الحضاري والانساني وبين ما يجري في العراق، فالمعادلة مقلوبة، والمشهد معكوس، والعدالة معطلة منذ زمن بعيد…؛حيث تحوّلت مؤسسات الدولة، لا سيما البلدية منها، إلى أدوات قمعية لا همّ لها سوى ملاحقة الفقراء وسحق أرزاقهم المحدودة… ؛ وهذه الظاهرة السلبية ليست وليدة اليوم ؛ فمنذ أن داست أقدام المحتلين المغول والعثمانيين والبريطانيين والامريكان أرض الرافدين، وُئدت الكرامة الاقتصادية للفرد العراقي، واستُبيح رزقه في كل حقبة سياسية منكوسة ، حتى بات سعي المواطن للعيش الكريم محفوفاً بالألغام... ؛ اذ لم يُكتب للإنسان العراقي أن يحيا حياة كريمة بلا قهر ولا ابتزاز… ؛ فقد تتبدل الحكومات، وتتناوب الأنظمة، لكن المعاناة تظل واحدة: شعب يُعاقب لأنه أراد أن يعمل… ؛ فمنذ عقود، لم يذق العراقي طعم الاطمئنان لرزقه… ؛ لا أحد يضمن قوت يومه…؛ ولم يحصل على قوته الحلال إلا بشق الأنفس. واستمر هذا النهج المقلوب حتى يومنا هذا… ؛ فكل مشروع بسيط، كل محاولة لكسر طوق البطالة دون الاعتماد على اصحاب النفوذ ، تُواجه بالمطاردة والابتزاز والهدم… .
فما إن يبادر شاب عاطل إلى إنشاء كشك أو بسطَة صغيرة ليكسب قوت يومه من كد يمينه … ؛ لم يسأل أحداً دعماً، ولم يطرق باب مسؤول، ولم ينخرط في سرقة أو فساد… ؛ فقط أراد أن يعمل ؛ كي لا ينخرط في الجريمة أو الإدمان أو التسوّل … ؛ حتى تُنهال عليه المصائب والمشكلات من كل حدب وصوب… ؛ تارةً يأتيه جار متسلط فيأمره بإغلاق محله والرحيل عن مكانه، بحجة إطلالته على بيته أو قربه من حديقته أو إحداثه للإزعاج، وهي حجج واهية قد تخفي طمعًا في موقعه أو نشاطه التجاري أو حسداً على عمله!
وإن نجا من هذه الورطة، وقع في شرك زبانية أمانة العاصمة أو موظفي الدوائر البلدية والصحية وغيرها… ؛ فهؤلاء جاهزون لابتزازه وفرض “الرسوم” التعسفية وأخذ الرشاوى بالتهديد … ؛ وإن سلم من هؤلاء، فإن دوريات الشرطة وغيرها من الأجهزة الأمنية تتربص به لاستنزافه واستغلاله … ؛ وحتى إن اجتاز كل هذه المطبات والعراقيل، يظل شبح “الأصفر” (الجرافة) يُخيم عليه، ذلك الوحش الحديدي الذي لا يُبقي ولا يذر… ؛ فقد يستيقظ ذلك الشاب المسكين ذات يوم ؛ ليجد مصدر رزقه قد تحول إلى ركام من الحطام، بعد أن دمرت الجرافة كشكه ومحتوياته من بضائع ومواد دون رحمة أو تردد … !
وهكذا تؤدي الدوائر الحكومية – بكل بساطة مروعة – “وظيفتها” في هدم دور الناس ومصادر أرزاقهم، وسحق بضائعهم، دون أدنى مراعاة للخسائر الفادحة أو للبؤس الإنساني، ودون تفكير في مصير هذا المواطن البائس ومن يعول من أطفال وأسرة... ؛ فلا مناص له من النهاية الحتمية: الشفل الأصفر... ؛ ذلك الوحش الحديدي الذي لا يسأل عن الأسباب ولا يحترم الأحلام. يدخل في الفجر أو عند الغفلة، فيحوّل الكشك إلى كومة من الأنقاض، ويذهب تعب الشهور أدراج الرياح، من دون اعتذار، من دون إنذار، ومن دون بدائل… ؛ تلك الآلة التي أصبحت رمزًا لقسوة الدولة وانعدام البديل… ؛ تأتي فجأة وتهدم كل شيء… الكشك، البضاعة، حلم الاستقلال، والكرامة… ؛ كل شيء يُمحى في دقائق، ولا أحد يسأل من هذا الشاب؟ ما مصدر رزقه؟ من يُعيل؟ كم شخصًا يعيش على هذا المشروع البسيط؟
نعم لا دراسة جدوى، ولا تقييم للخسائر، ولا اعتبارات لعدد الأطفال الذين يعيلهم صاحب المشروع… ؛ لا شيء سوى العنف الإداري، البارد، الجاف، الذي لا يسأل: “ما البديل؟”، بل يكتفي بتنفيذ الأوامر... ؛ هكذا تمارس بعض دوائر الدولة دورها: تهدم بدل أن تبني، وتقمع بدل أن ترعى، وتغلق الأبواب بدل أن تفتح نوافذ الأمل… ؛ وكأن الغاية ليست تنظيم الحياة، بل التنكيل بالفقراء والمساكين الذين لم يرتكبوا سوى جريمة واحدة: أنهم حاولوا أن يعيشوا بشرف... ؛ والأدهى من ذلك، أن هذه الإجراءات تتم في ظل أزمة بطالة خانقة، ومع غزو للعمالة الأجنبية، وازدياد اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين ومزاحمتهم للعمال العراقيين في مجالات العمل كافة، الخاص منها بل والعام أحياناً ؛ وغياب فرص العمل… ؛ ومع ذلك لا تبدو الدولة معنية إلا بإزالة ما تبقى من سبل النجاة للفقراء … ؛ أي عقلٍ إداري هذا الذي يطارد بائع الماء في التقاطعات، ويمنع سائق الدراجة النارية “الدلفري” من العمل ، ويضيّق على سائقي (التكاتك ) ويطارد بائع الأسماك المتجول بحجج واهية … الخ ؛ شبابٌ عاطلون عن العمل، يفتتحون أكشاكاً صغيرة، أو بسطات متواضعة يبيعون من خلالها الخبز أو العصائر أو الأدوات المنزلية، سرعان ما يجدون أنفسهم مطاردين من الجميع: الجيران المتذمرون، والبلديات المتغوِّلة، والشرطة المتربصة… ؛ وكأنهم في حرب شعواء او ساحة معركة لا ترحم …!!
إن غياب البدائل ليس مجرد فشل إداري، بل هو جريمة اجتماعية واقتصادية وأخلاقية… ؛ وهو الوجه الحقيقي لمنظومة لا ترى في المواطن إلا متهمًا محتملًا، أو مشكلة يجب تصفيتها بجرافة لا تعرف الرحمة.
فهل هذا جهل؟ أم تواطؤ؟
هل يعجز البلد بكل ثرواته وكوادره وموارده عن تخطيط بسيط يُنقذ آلاف العوائل من الجوع والتشرد؟
أم أن هناك من يريد لهذا الشعب أن يظل ساجدًا بين أنقاض كشكه المهدم، يتضرع ألا يعود “الأصفر” مجددًا؟
في العراق، الدولة لا توفر البدائل… لكنها تملك دائمًا “شفلًا” جاهزًا , وسجنا مكتظا بالنزلاء .
بعد كل هذه الاجراءات التعسفية والقرارات الاعتباطية ؛ يأتي المسؤول الفاشل والسياسي المنكوس ؛ ثم يتساءل: لماذا يرتفع معدل الجريمة؟ لماذا يدمن الشباب؟ لماذا يتجه البعض إلى التطرف والانهيار؟!
الحكومة لا تسأل حتى … ؛ فهي تُنفّذ “الإزالة” كما لو كانت واجبًا مقدسًا لا يُراجع، ولا يخضع للتفكير ولا للتخطيط… ؛ ولا أحد من المسؤولين يقف ليسأل: لماذا لا نوفر بديلًا؟ لماذا لا ننشئ عربات خدمية مصممة حسب نوع النشاط التجاري، تُمنح لهؤلاء الشباب بقروض ميسرة أو بأسعار رمزية؟ لماذا لا نخصص ساحات حضرية مجهزة لأصحاب المشاريع الحرة، بمواصفات صديقة للبيئة وجذابة بصريًا، بدل مطاردتهم كما يُطارد المجرمون؟
ما الذي تريده الدولة من هؤلاء؟ هل يُراد دفعهم إلى الجريمة قسرًا؟ هل يُفترض بهم أن يتحولوا إلى عبء على المجتمع بدل أن يكونوا طاقات إنتاجية؟ أليس الأجدر بالحكومة أن تنشئ بيئة حاضنة للمشاريع الصغيرة، تشجع فيها على الريادة والتوظيف الذاتي، بدل التنكيل بمن يحاول أن ينهض بنفسه دون مساعدة أحد؟
هل هذه هي وظيفة الدولة؟ مطاردة الفقير بينما يعجز القانون عن ملاحقة كبار الفاسدين وتجار المخدرات وسارقي المال العام؟ كيف يعقل أن تقف مؤسسات الدولة عاجزة عن توفير مواقع بديلة منظمة لأصحاب الأكشاك والبسطات؟ لماذا لا تُمنح قروض ميسرة أو تُوزع سيارات متنقلة ذات تصميم حضاري مدعومة من الدولة ليزاول أصحاب العمل الحر أعمالهم ضمن إطار قانوني منظم؟
لماذا لا يُخصص لكل نشاط – كبائع الكتب أو الخضار أو القهوة – وحدة متنقلة بشكل جميل ومحدد، بدل أن يُنزع عن صاحبه رزقه تحت مسمى “التجاوز”؟ لماذا لا تنشأ ساحات مخصصة مرخصة لمن لا يملكون محلات، تُدار بشكل حضاري ومربح ومفيد؟ أم أن “الإزالة” أسهل من التفكير؟ و”التهديم” أكثر راحة من التخطيط؟ و”الطرد” أسرع من الإصلاح؟
أسئلة يتردد صداها في كل شارع عراقي: لماذا تُرك الشباب بين خيارين لا ثالث لهما؟ إما البطالة والانهيار النفسي، أو المغامرة في رزق هش قد يتهدم في أية لحظة؟ بل لِمَ يُعامل باعة الماء في التقاطعات، وأصحاب التكاتك، وباعة السمك الجوالين، وكأنهم خطر على الأمن القومي، بينما تُترك شبكات الفساد في الوزارات دون محاسبة؟
هل غياب البدائل ناتج عن قصور في الخيال الحكومي؟ أم أن ثمة نية مبيتة لتدمير ما تبقى من عزيمة في نفوس الناس؟ هل هناك قرار غير معلن بإذلال المواطن، وسحق كرامته، ودفعه قسرًا نحو الإدمان أو الجريمة؟
في النهاية، السؤال الأخطر يظل معلقاً: هل المسؤول في العراق جاهل فعلاً بما يفعل؟ أم أنه ينفذ أوامر فوقية تستهدف هذا الشعب؟ وهل آن أوان التوقف عن مطاردة الناس، والبدء بمساعدتهم؟ أم أن البلاد ما زالت أسيرة عقلية الاحتلال، تحكمها بيروقراطية “الإزالة” لا “الإعالة”، وسياسات “التهديم” لا “التنمية”؟
الزمن كفيل بكشف النوايا… ؛ أما الفقراء، فليس لهم سوى الصبر… أو الانفجار.
الخلاصة : لماذا لا تفكر الحكومة في توفير بدائل؟
فهل تعجز الدولة بكل إمكانياتها المادية عن إيجاد بدائل لائقة لأصحاب البسطات والاكشاك والمحلات ؟ ألا تستطيع توفير سيارات خدمية مصممة هندسياً وبأشكال حضارية، تُمنح لهم مجاناً أو بأسعار رمزية أو أقساط ميسرة؟ ألا يمكنها تخصيص أماكن عامة محددة لهؤلاء، تُؤجر لهم بإيجارات مناسبة، مع اشتراط مواصفات جمالية وبيئية معينة لأكشاكهم؟
لماذا لا تتخذ الحكومة هذه الخطوات العملية التي تُشجع الشباب على الإبداع والمبادرة، وتُقلل البطالة، وتُنشط السوق، وتُضفي جمالاً ونظاماً على المدن؟ بهذه الإجراءات تُحقق الحكومة أهدافاً متعددة بحل واحد… ؛ فلماذا إذن تصر على سياسة الهدم والتشريد ومطاردة الشباب العامل؟ لماذا كل هذه المطاردة الغاشمة والظالمة؟ ماذا تريدون من هؤلاء الشباب؟ هل تدفعونهم قسراً نحو هاوية الإدمان أو الجريمة؟ لماذا لا تُسهلون حياتهم وتُقدموا لهم الدعم؟ أهو جهل مركب وغباء في الإدارة، أم تنفيذ لأجندات أعداء البلاد وقوى الاستعمار والاستكبار؟ السؤال يطرح نفسه بمرارة، والجواب ينتظره شعبٌ منهك يبحث عن بارقة أمل في ظل مؤسساتٍ تحترم الإنسان قبل الحجر.
كل هذه الأفكار ليست أحلاماً، بل خطوات قابلة للتطبيق في أي بلد يحترم مواطنيه… ؛ لكن في العراق، تغيب الإرادة السياسية، وتحضر النوايا المشبوهة… ؛ فهل السبب هو الجهل؟ أم التبعية لخطط خارجية؟ أم أن ثمة مَن يريد إبقاء المجتمع في دائرة التهميش والضياع، ليظل قابلاً للانقياد؟
ما يجري ليس مجرد إخفاق إداري، بل اعتداء على حق الإنسان في العيش… ؛ والسكوت عنه خيانة اجتماعية... ؛ لذلك، فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح بجرأة هو: هل نحن أمام دولة تخدم شعبها، أم سلطة تطارده؟
هل نحن في وطن، أم في ميدان مطاردة مفتوح للفقراء؟
كل ما يطلبه هؤلاء الشباب هو حق بسيط: أن يعملوا… دون خوف من الشفل الأصفر.