رغم تعدد مفاهيم الحكم الديمقراطي وفقاً لاختلاف الزمان والمكان.. إلا إن الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن لخص مفهوم الحكم الديمقراطي بمقولتين:
ـ الأولى : أوضح فيها.. (انه لا يحق لأي شخص أن يحكم الآخرين دون موافقتهم).. أي إن الحكومة الديمقراطية ما هي إلا حكومة ممثلة للشعب.. وهدفها صيانة حقوق المواطنين وكرامتهم والعمل على تحقيق متطلبات وظيفة الدولة من خلال التنمية.. بمختلف أشكالها وما تتضمنه من توفير لخدمات واحتياجات أساسية كالتعليم والصحة والسكن والغذاء.. مما يتيح الوصول لاستتباب الأمن وتحقيق الرفاهية والحرية والتعددية.
ـ أما في الثانية فيقول لنكولن (إذا ضاق الشعب ذرعاً بحكومته.. فله مطلق الحرية الدستورية أن يغيرها).. وبذا يكون العنصر الثاني المكون للديمقراطية.. هو في الوقت نفسه مكمل للعنصر الأول.
حيث يرتكز على حق الشعب في أن يغير من يحكمه.. إذا فقد الثقة فيه.. أو وجد من هم أصلح منه.. وبالتالي تظل السلطة الحاكمة انعكاساً لإرادة الشعب.. ومسخرة لخدمة مصالحه.. وأولوياته.. وهو ما يصبح في الوقت نفسه مبعث شرعية النظام الحاكم.. ومصدر تفويضه لممارسة الحكم.
وعلى الرغم من اجتهاد العديد من الباحثين والفقهاء والمفكرين في تحديد مفهوم الديمقراطية.. لكن الجميع يتفقون على وجود مجموعة من الحقوق والحريات العامة تمثل الأساس الراسخ لأي نظام ديمقراطي أينما وجد.. وعند غياب هذه الحقوق والحريات الأساسية.. لا يمكن الحديث عن بناء ديمقراطي سليم.. يحترم رأي الشعب.. ويسعى لخدمة مصالحه.
الحقوق والحريات العامة:
تتسم هذه الحقوق بالشمولية والعمومية.. وبما يسمح تطبيقها في أي نظام قانوني.. وبقبولها في أي مجتمع.. مهما كانت الظروف التي يعيشها.. ويبدو إن الحقوق التي تمثل أساس العملية الديمقراطية تتضمن ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى.. حقوق أساسية.. هي :
حق الحياة.. وتحريم التعذيب.. أو العقوبة القاسية.. أو المعاملة غير الإنسانية.. أو الحط من كرامة الإنسان.. كذلك عدم التمييز والمساواة بين الجميع.. وتحريم الاسترقاق.. والاستعباد.. والحق في الحرية.. والأمن.. والسلامة الشخصية.
المجموعة الثانية.. حقوق سياسية:
و هي المتعلقة بعملية الممارسة الديمقراطية.. وتضم حرية الفكر.. والوجدان.. والدين.. والتعبير.. والرأي.. والاجتماع.. والاشتراك في الجمعيات وإنشائها.. وحق المشاركة في إدارة شؤون الدولة.. والعمل في الوظائف العامة.
المجموعة الثالثة.. ضمانات الديمقراطية:
أي العدالة القضائية.. وتشمل الحق في المثول أمام محكمة مستقلة.. ومحايدة.. ومنصفة.. وعلنية.. ولا يمكن للديمقراطية أن تكون مكتملة دون وجود ضمانات راسخة.. قادرة على درء خطر بطش أية قوة سياسية.. أو استفرادها بالسلطة.. وعادة ما تكون هذه المسؤولية مناطة الى قضاء مستقل.. ومحايد.. لا سلطة عليه سوى القانون.. وبالتالي يصبح القضاء الحصن الحصين.. وصمام الآمان للديمقراطية.. والقوة القانونية والدستورية.. التي تقف بوجه أية قوة مهما كانت للانتقاص من حقوق الشعب وحرياته.
ضمان الحريات:
وقد ميز الباحثون والفقهاء: بين حقوق مادية.. وحقوق معنوية.. ضمن المجاميع الثلاثة.
ـ فضمن الحقوق المادية تدخل:
الحرية الشخصية.. وحرية أو حق التملك.. وحرمة المساكن.. وحرية العمل..
ـ وتدخل ضمن الحقوق المعنوية:
حق التعليم.. وحق المساواة.. واحترام حرية العبادة.. وان يترك الفرد حراً في الشؤون السياسية.. والاقتصادية.. والاجتماعية.. والفكرية.
ـ أما الحقوق السياسية:
تتمثل بتوفير ضمانات قصوى للمواطن ضد سلطة الدولة.. وبما يضمن إقامة علاقات سياسية بين الحكام والمحكومين على أساس حر.. من خلال:
ـ اختيار الشعب لممثليه في السلطتين (التشريعية والتنفيذية).. عن طريق انتخابات حرة ونزيهة وعادلة.
ـ وإقرار مبدأ الفصل بين السلطات.
ـ وضمان حرية وسائل الإعلام.. والتعبير عن الرأي.. والاحتجاج والتظاهر.. وحرية منظمات المجتمع المدني.. بما فيها إنشاء الأحزاب.. وإقرار التعددية
ـ وحق ممارسة إعمالها وضمان الحريات العامة.. المرتبطة بالحقوق الفكرية.. والثقافية.. وحرية التعليم.. والحريات الاقتصادية وغيرها.
متى تتدخل الأجهزة التنفيذية؟:
ـ تدخل الأجهزة التنفيذية الحكومية في:
ـ إيقاف أي تجاوز.. أو خرق.. أو تعد على أي من هذه الحقوق.. بتطبيق القوانين ذات الصلة.. دون تعسف في استخدام الصلاحيات.. أو التجاوز على حقوق وحريات الأفراد.
ـ ويكفل القانون محاسبة المتجاوزين على هذه الحقوق.. من خلال القضاء سواء أكان المتجاوز.. فرداً.. أم جماعة.. أم هيئة حكومية.. أو غير حكومية.
التحول الديمقراطي.. وإشكالية ضمان الحقوق والحريات:
يمر العراق في مرحلة التحول نحو الديمقراطية.. وهو يواجه إشكاليات عديدة:
ـ في بناء مؤسسات النظام الديمقراطي.
ـ آلية التداول السلمي للسلطة.
ـ مهمات المجتمع المدني.. وتحقيق نظام المؤسسات ودولة القانون.
ـ غياب الأمن أو ضعفه.
ـ وضع اقتصادي مترد.
ـ التخندق الطائفي والعشائري والعرقي.
ـ كل هذه معرقلات جدية لإقامة الديمقراطية.. بل ومعرقلة للعملية السياسية والتحول الديمقراطي.
صحيح إن الدستور العراقي الحالي خصص الفصل الثاني منه للحريات.. وأكد فيه على:
ـ إن حرية الإنسان وكرامته مصونة بكفالة الدولة.. وبما لا يخل بالنظام العام والآداب.
ـ حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل..
ـ وحرية الصحافة والطباعة والنشر والإعلام والإعلان.
ـ وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي.
ـ وتأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية.
ـ وحرية الاتصالات والمراسلات بمختلف وسائل الاتصال والتراسل.. وعدم مراقبتها أو التصنت عليها.. أو الكشف عنها.
ـ وكفالة الدولة لحرية العبادة.
ـ وتحريم جميع أنواع التعذيب النفسي.. والجسدي.. والمعاملة غير الإنسانية.
ـ وتكفل الدولة حماية الفرد.. من الإكراه الفكري.. والسياسي.. والديني.
ـ وتحريم العمل ألقسري (السخرة).. والعبودية وتجارة العبيد( الرقيق).. وتحريم الاتجار بالنساء والأطفال.. والاتجار بالجنس.
ـ كما تحرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني.. ودعمها وتطويرها واستقلاليتها.. بما ينسجم مع الوسائل السلمية لتحقيق الأهداف المشروعة لها.
ـ كما أكد الدستور ضرورة تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في الدستور.. أو تحديدها إلا بقانون.. أو بناء عليه.. على أن لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق.. أو الحرية.
ـ كما اقر هذا الدستور حق جميع الأفراد في التمتع بكل الحقوق الواردة في.. المعاهدات والاتفاقيات الدولية المعنية.. بحقوق الإنسان التي صادق عليها العراق.. التي لا تتنافى مع مبادئ وأحكام هذا الدستور.
ـ ولابد أن نشير الى أن الدستور العراقي قد ضمن: حقوق الإنسان باعتبارها العمود الفقري للحرية.
ـ والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق المدنية.. والسياسية.. والاقتصادية.. والاجتماعية.. والثقافية.. وصيانة هذه الحقوق قانوناً.. ضمن حقوق الأسرة.. والأمومة والطفولة.. وحمايتها.
ـ إن إقرار هذه الحقوق والحريات يتطلب:
ـ أن تأخذ الدولة على عاتقها.. توفير آليات لضمان ممارسة تلك الحقوق والحريات وصيانتها.. مع التركيز على ضرورة تحقيق الترابط الحقيقي والفعلي بين جميع هذه الحقوق والحريات بما يضمن في الدستور إرساء أسس ومبادئ شفافة وقوانين كفيلة لبناء دولة ومجتمع ديمقراطي.
ـ فهل حقاً استطاعت العملية السياسية منذ 2003 حتى اليوم.. على صعيد الواقع.. وأجهزة الدولة..والقضاء.. تحقيق وضمان.. حتى ولو 20%من هذه الواجبات والحقوق الأمن.
ـ نقول على صعيد الواقع: إن بناء الديمقراطية لا يأتي من فوق.. أو من الخارج فحسب.. بل لابد من توفير الظروف الملائمة لنموها كما تتطلب في وضع مثل العراق.
ـ من مرحلة للتحول من النظام الشمولي.. ومؤسساته.. وقوانينه.. وآلياته.. وثقافته.. الى وضع أسس النظام الديمقراطي.. وبناء مؤسساته وقوانينه والياته وثقافته.. وهي أمور في غاية الصعوبة والتعقيد.
ـ إن أولى التعقيدات أو الإشكاليات التي يعيشها العراق منذ 2003 وحتى الآن.. هي:
ـ سيادة ثقافة العنف.. والإقصاء.. وسيطرة مفهوم القوة.. على مفاهيم التسامح.. والحوار والتفاوض.. ومفهوم العشيرة.. والطائفة.. والعرق.. على مفهوم المواطنة.
ـ إضافة الى ما أفرزته ظروف العراق الاستثنائية.. وعسكرة المجتمع.. والحروب.. والحصار الاقتصادي من انهيار نظام القيم.. وبرزت اكبر المخاطر على:
ـ إرساء الديمقراطية في.. الأعمال المسلحة.. والتخريب.. والإرهاب بمختلف أشكاله
ـ وفساد الأجهزة الحكومية المختلفة.. بحث أصبح الفساد منظمة خطيرة لا أحد يستديع فتح بابها!!
ـ وغياب القانون.. وضعف الحكومة.. وضعف المجلس التشريعي النيابي.
ـ والتجاوز على الدستور.. من قبل القوى السياسية المساهمة في العملية السياسية.
ـ والفوضى التي يعيشها العراق بكل الاتجاهات.. وما يمكن أن يسمى ب “أزمة تشكيل الحكومة” .. أو “أزمة الحكومة الضعيفة”.
ـ والأخطر “أزمة الدولة العميقة”.
ـ كل هذه الإشكاليات تجعل عملية إرساء المؤسسات.. والفكر الديمقراطي حالة معقدة وشائكة.
ـ فلابد من إعادة النظر في كل مسيرة المجتمع.. وصياغة قوانين.. وبناء مؤسسات.. وفكر ثقافة ديمقراطية.. وفق واقع العراق.. وظروفه.. وليس وفق فرضيات ومبادئ لمجتمعات متقدمة مضت على الديمقراطية فيها قرون عديدة.
كل ذلك لن يتحقق في ظل هذه التكتلات أساسية.. وقوانين الانتخابات والأحزاب.
فلا بد من تدخل شعبي وجماهير لتغيير جذري حقيقي.. وليس سرقة الأحزاب لمطالب الشعب!!