22 ديسمبر، 2024 11:37 م

من يشعل الفتيل أولاً؟ .. فاضل خضير .. وروايته ُ (الضحايا)

من يشعل الفتيل أولاً؟ .. فاضل خضير .. وروايته ُ (الضحايا)

2- 1

(*)

يتناول الروائي فاضل خضير في روايته (الضحايا) عراق ستينات القرن الماضي وبؤرة التناول هو جيل الشباب المثقف المبتلى بمرحلة وطنية في غاية الاشتباك والخطورة (اليسار كان يحمل العبء وكان يتشظى من الداخل، نتيجة الضغط الهائل من قبل قوى التخلف. ومن أصحاب المصالح المتمثلة بسلطة الدولة/ 20)..( اغتيل تواً، أحد أعضاء اللجنة المركزية.. تم ذلك في زقاق ضيق../ 24).. ويتوقف المؤلف بعمق في لحظة الصدع الكبير في الحركة الشيوعية العراقية، وظهور تنظيم القيادة المركزية  المناوئة للحزب الشيوعي برئاسة اللجنة المركزية ويصحبنا السارد الخبير بمقاهي بغداد آنذاك وباراتها : والسارد يقدم لنا الوجيز السردي لهويات هذه الأمكنة

بار سرجون/ 18

مقهى البرلمان/ 13

مقهى الجباة/ 17

مقهى المعقدين/ 19

مقهى البرازيلية /137

مع ص5 وهي الصفحة الأولى، يخبرنا السارد المحايد أن سعيداً وهو خريج كلية الآداب/ قسم الفلسفة في جامعة بغداد. مضت سنوات وهو مازال عاطلا .. لذا قرر العودة إلى بغداد لعل يعينه الصديق العم (أبو حسام)  ويوفرّ له مهنة ً تحصّن كرامته(بحثت ُ في دوائر البصرة فلم أجد ما يناسب تخصصي/ 14)  وفي ص22  يعطي سعيد تبريراً ثان لصديقه فؤاد(فراغ قاتل في مدينتي، جعلني أحن إلى الأيام التي عشتها في بغداد، أفكر أن أكون مراسلاً لأحدى الصحف، أو أعمل في مكتبة أهلية، أو أي مكان له علاقة بالكتاب، وهذا متوفر في بغداد)

في الخامس من شهر تشرين 1968 يكون سعيد في بغداد. وبالتوقيت نفسه، ستجلس بجوار سعيد في عربة القطار امرأة بصرية ستهجر البصرة وتسكن مع جدتها في مدينة الثورة وهي الممرضة ساجدة/ 55- 63 ص وبشهادة سعيد (جمعنا الهروب من المدينة، مرغمين، باحثين عن أمل جديد)  سعيد  أمضى في بغداد أربع سنوات جامعية، ثم عاد إلى مدينته البصرة حاملا شهادة تخرجه في قسم الفلسفة/ كلية الآداب في بغداد. شخوص الرواية: حميد.. عبدالله. . جعفر.. حامد هؤلاء مثقفون و أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي. أما فؤاد فهو مثقف يعتنق وجودية سارتر وصديق الجميع.. سعيد مثقف لا منتمي وبشهادته(أعيش مع أصدقاء متنافرين في الرأي. وغير منسجمين عقائديا، كل منهم يعتقد هو الصحيح، وأنا أجاري هذا الشتات دون أن أصطف… أعني لم أكن جاداً في اتباع أي مذهب/ 49) كأنه كمال عبد الجواد في (بين القصرين) رواية نجيب محفوظ

(*)

تتعقب قراءتي  الوشائج بين كل أثنين:

(1) علاقة سعيد بصديقه إبراهيم عميقة وقد قصده دون الآخرين حينما أراد السكن في بغداد/ ص7 وفي ص32 يتذكر وصية إبراهيم الثقافية(..تذكر وصية صديقه إبراهيم، محملا إياه سرد يومياته عن طريق الرسائل، وأن لا يتوانى عن ذكر الجزيئيات المهمة، أو الفاعلة/ 32)

(2) سعيد خريج قسم الفلسفة وعلاقته مع  ناصر حارس العمارة التي كان يسكن فيها حين كان طالبا. علاقة مجاملات تفرضها ظروف سعيد  فهو كان يجلب للحارس ناصر(التوابل بمختلف أنواعها وكذلك التمور الجيدة التي تمتاز بها محافظة البصرة/ 10) وبالمقابل كان الحارس ناصر(يُسهل كثيراً من الأمور الصعبة التي كان سعيد يواجها في سكنه) وبين الطالب والحارس: هوة  أخلاقية ناصر مهنته حارس لكن لا تناسبه هذه الصفة لأن هذا (الحارس)، كان يمارس مهنة الوسيط بين البغايا والساكنين في الشقق. وسيقف هذا الوسيط موقفاً أخلاقياً جميلاً مع سعيد/ ص16 والطريف بالأمر أن الحارس لا يتضايق من مشاركة سعيد له بهذه الحجرة الصغيرة (أنا أعتز بوجودك معي، بقاؤك نم عن فأل فيه نعمة… أتعرف؟ بالأمس حصلتُ على غنيمة جديدة، دسمة. واليوم موعود حسب الوصف أيضاً من الغنائم النادرة… أنا مطمئن تماماً، بل أصبحت متفائلاً من بقاءك معي/ 59)

(3) العلاقة بين سعيد والعم أبو حسام علاقة ثقافية/ 11 / ثم ستكون اجتماعية/ 12

(4) علاقة سعيد مع صديقه فؤاد  علاقة ثقافية تحاورية حول الثقافة والكتب وهي علاقة تكاملية أيضا وبشهادة فؤاد وهو يخاطب سعيداً

(أنا فِرح جداً بقدومك والعيش هنا… صراحة دائماً أشعر بفراغ بائس بغيابك، ثم إني لم أتعرف لحد الآن على شخصية تعوّض أو تكون بديلاً عنك في المحاكاة الفلسفية/ 21)

(5)  فؤاد وإبراهيم غير مقتنعين بقرار سعيد في ترك البصرة… قال له إبراهيم حين زاره في أبي الخصيب( أنت لا تملك عملاً مضموناً في بغداد، ربما ستكون سفرة استطلاعية… أليس كذلك؟/ 7)  وهما في البار فؤاد يخاطب سعيداً (لم أتوقع رجوعك ثانية إلى بغداد… ثم أنك لم تناقش معي في يوم ما، فكرة العيش في بغداد، كبديل عن مدينتك البصرة../ 21) ثم يتشكك فؤاد بوجود سعيد في بغداد.( أهو صدام شخصي مع العائلة…؟ هذا التغيير ما زلت لم أستوعبه…!)

(6) علاقتهما تنافرية: فؤاد وعبدالله(أمتعض فؤاد من حضور عبدالله، لأنهما دائما على خلاف عندما يتجاذبان الحديث عن السياسة/ 25)

وعندما يسافر إلى لبنان ويلتحق عبدالله بالمقاومة الفلسطينية/ الجبهة الشعبية/ ثم يدخل شاب غريب مقهى المعقدين ويبشرهم بسلامة عبد الله وتحياته إلى كافة رواد مقهى المعقدين، ما أن يغادر الشاب الغريب حتى يغادر المقهى ليعرف المزيد عن عبد الله وحين يتوارى الغريب، ويعود فؤاد منكسراً إلى المقهى يخاطب نفسه(غادر عبد الله الوطن، ولم أكن البادئ في أي حديث معه بالهجوم… إنما هو يتكابر برأيه ويستصغر الآخر/ 95)

(7) عبدالله وحامد : يجمعهما تنظيم القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي فكلاهما كانا في تنظيم اللجنة المركزية ثم التحقا بالقيادة لكن عبدالله يتفوق على حامد فهو(أشد ثورية منه/ 27)

(8) العلاقة بين جعفر وحميد: انتقلت من صداقة حميمة إلى عداء فكري والسبب (كان من أفضل أصدقائي، كنا نسير ونأكل معاً باستمرار ولكن بعد أن حصل الانشقاق في داخل الحزب، أنظم حميد إلى جماعة عزيز الحاج، ذهب كل واحد منا إلى طريقه الخاص/ 67) واصل جعفر تنظيمه مع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.

(9) حميد وسعيد : الوسيط بينهما هو فؤاد الذي اقنع حميد أن يشاركهُ سعيد بالغرفة ..وافق حميد خصوصا وأنه (بحاجة إلى المال/ 28)

(10)العلاقة بين حميد وعبدالله : أن استشهاد عبدالله في جنوب لبنان ضمن الجبهة الشعبية / قيادة جورج حبش خسارة فادحة بالنسبة لصديقه حميد وبشهادة حميد(فقدت آخر أمل، أترجى به إلى هذا الوجود… كان عبدالله الوحيد الذي أنصف موقفي وتضامن مع محنتي.. وعدني بأن ينتشلني من مأزق حيرتي.. كان حلما ورديا أن أجاهد بخندق واحد مع عبدالله.. والآن فقدته/ 235)

(11) الوسيط بين  حميد وفؤاد : الروائي كافكا وروايته ُ (المحكمة)

(12) العلاقة حامد وحميد:  صار حامد يتهرب من رؤية  حميد:

( عندما دخل حامد المقهى، شاهد حميد يجلس عند أحد أركانها، جفل حامد في ذات اللحظة، وتغيرت ملامحه. حمل الشاي بهدوء، أقترب من فؤاد وبقي واقفاً يرتشف الشاي على عجل. استغرب فؤاد من تصرفه، كان في نيته الجلوس والحوار أما الآن ، يفضل المغادرة/ 96) السبب هو أن حميدا ً إنهار تحت التعذيب فاطلقوا سراحه.

(*)

سعيد يمتلك فطنة المرتاب من المثقفين (المخابرات العراقية، جندت الكثير من المثقفين ونشرتهم بين صفوف اليسار../ 30) وسعيد يتفوق على فؤاد في التفريق بين العلاقات الاجتماعية وحسب قوله لفؤاد

(أن تلتقي مع شخص في مقهى، بار، يختلف عن السكن معه.. هنا المشكلة…!) لكن إبراهيم صديق سعيد أعمق فطنة من سعيد. الذي يعوّل على معونة تأتيه من العم (أبو حسام) وها هو سعيد يستعيد كلام إبراهيم حين زاره في محل سكناه في أبي الخصيب (كيف تبني آمال على صداقة أساسها قائم على تفاوت زمني هائل، الفارق ما يقارب خمسين عاما. هناك إذن مفارقة واضحة بين الاجيال والمفاهيم والحضارة، خمسون عاماً بالكامل، كم ثورة حصلت..؟ وكم حرب اندلعت..؟ أذن ما أهمية هذه الجدوى من التفكير بهذا الاتجاه؟/ 34)..ومثلما قال سعيد عن حميد حين سأله فؤاد عنه (أن تلتقي مع شخص ما في مقهى، بار، يختلف عن السكن فيه/ 30.. سيقول العم (أبو حسام) وهو يضيّف سعيدا ً في بيته الكلام التالي(بالإمكان، أن نتحدث بصراحة، الأجواء مناسبة، وأنت تعرف ذلك. المقهى مكان غير مأمون في الحديث عن كل ما يخالج أنفسنا… فحتى للحيطان آذان خفية) ومن خلال حصانة البيت سنعرف سببين لتعلق العم بسعيد

(1)الذي دعاني للاقتراب منك هو ليس فقط موضوع الفلسفة/ 41ص

(2) والسبب الثاني هو التشابه بين ولده حسام الذي يدرس في لندن الطب وبين سعيد. لكن الأهم من السببين هناك السبب الثالث (أني بحاجة إلى من يساعدني في إدارة أعمالي، أعاني الآن من الإرهاق في العمل ومن التكرار ومن ظهور الشيخوخة) وها هي فرصة العمر انفتحت لسعيد . لكن كل تبريرات سعيد غير مقنعة وخصوصا الكلام التالي(ينبغي أن أتواجد كل الوقت هناك مع العاملين… معنى ذلك لم يعد الوقت الكافي للقراءة/ 42) السؤال هنا كالتالي حين كان في البصرة عاطلاً،لم يخبرنا السارد عن تعلقه بالكتب.؟ ثانيا التواجد بالعمل لا يستولي على كل الوقت؟ بل سيكون عليه أن ينظم ّ وقته ويوازن بين الأمور

أقول ذلك من خلال تجاربي الشخصية مع الأعمال المرهقة التي امتهنتها.. وسيكون العم أكثر إنسانية ومرونة حين يعرف من سعيد هوسه في الكتاب يقرر أن يقف بجانبه. بل حاول العم يفتح بابا أوسع أمام سعيد حين يسأله (هل مارست الحب مع زميلة أثناء الدراسة الجامعية…؟/ 50) ثم أقبلت سهام ابنته لتعد المائدة(وهي تتخطى نحو المائدة وترشق بطرفها الخفي، نظرات تصويب نحو ملامح سعيد. وسعيد هو الآخر انفعل بتلك الرشقات الولهانة فداهمه إحساس جديد، جعله ينتشي وإن الدعوة حُبلى بما كان غير مألوف، وما عليه غير أن ينتظر المزيد/ 51) وبالطريقة هذه كان العم يقول كلاما بدون كلمات أريد عونا ونسيبا وتعيش معي في هذه الرفاهية. لكن يبدو أن سعيداً يكابد غباءً لا نظير له بين المثقفين. (رجع العم إلى غرفة الضيوف، جلس وهو ليس على ما يرام. ظهر البؤس على ملامحه وكأنه فقد الأمل المرجو من اقتناص الفرصة التي اجهد في التحضير لها في كسب ود سعيد/ 52)..

(*)

(الضحايا) رواية فاضل خضير. تعيدني إلى روايتين تشتغلان على نفس الموضوعة وهي المثقف العراقي وبغداد. الرواية الأولى(خمسة أصوات ) للروائي غائب طعمة فرمان  التي تتناول أربعيناتوخمسينات القرن الماضي من خلال خمس شخصيات عراقية تشتغل بالصحافة والأدب. و.. الثانية  رواية جبرا إبراهيم جبرا(صيادون في شارع ضيق) ..ورأي في هذه الرواية مطابق لرأي الناقد محمد مبارك في كتابه النقدي(دراسات نقدية) الصادر 1976/ منشورات وزارة الأعلام

من هنا أرى (الضحايا) تتجاور نوعا مع (خمسة أصوات)  وتختلف معها في التناول .رواية (الضحايا) تناولت المثقف في عراق الستينات ومنها صعودا إلى ما بعدها

فاضل خضير/ الضحايا/ دار سطور/ بغداد/ ط1/ 2022