بالغ كثيرون من العرب وقليلون من العراقيين في امتداح الزيارات التي قام بها لدول الخليج العربية رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، برغم أن الواقع المتوفر في العراق يقول لهم إن إيران هي المتصرفة الوحيدة بكل شؤونه الداخلية والخارجية، سياسيا وأمنيا وماليا واقتصاديا، ومن يتكم باسم الدولة العراقية إنما يتكلم باسمها، وحسب توجيهاتها وتعليماتها، ولن تسمح لأحدٍ من خصومها وأعدائها، ولا من أصدقائها وحلفائها، بأن يمدّ أصبعاً في ملكها إلا بالمقدار الذي ترى فيه مصلحة لاحتلالها، ونفعا ماليا لخزانتها تحصده، أولا وآخرا، من أية استثمارات مجزية قد يتورط حاكم او تاجر عربي أو أجنبي فيقيمها.
وأغلب الظن أن الذين زارهم الكاظمي، بموافقة إيرانية أو بتكليف، ليسوا مغفلين ليسهل استغالهم وجرُّهم لرمي أموالهم تحت أقدام الأربعين حرامي العراقيين والإيرانيين إكراما لخاطر زائرٍ عراقي كبير أو صغير.
فليس غائبا عن مخابراتهم أن النظام الإيراني الذي سطى على مصلحة المجاري، وأسواق الطماطم والخيار الشعبية الرخيصة في العراق لن يدع استثماراتٍ بعشرات أو بمئات الملايين من الدولارات تفلت من قبضته، خصوصا وقد اختار، مؤخرا، واحداً من أكثر وكلائه وعبيده ولاءً وتبعيةً وأجلسه على كرسي رئاسة هيئة الاستثمار، جابيا ومبشرا ونذيرا.
وعليه فإن العرب الذين أشادوا بزيارة الكاظمي للسعودية والإمارات، واعتبروها خطوة هامة “لتعزيز الحاضنة العربية للعراق”، ودعوا إلى “تكثيف هكذا زيارات، فهم إما ذوو نوايا حسنة لحد السذاجة، أو متشاطرون يريدون بتطييب خاطر الكاظمي أن يحملوه رسالة إلى الوالي الإيراني الحاكم الأوحد في المستعمرة المسماة بـ العراق، ربك وحده يعلم بما كتب فيها بالحبر السري.
وهذه مناسبة لقول الحقيقة التي تجاهلها البعض من أشقائنا، حتى وهم يدفعون فواتيرها الباهظة.
فبكل صراحة إن القادرين منهم، القريبين والبعيدين، أخطأوا كثيرا بحق شقيقهم الشعب العراقي، ثم أخطأوا أكثر بحق شعوبهم قبل غيرها.
فهم، بدون شك، ساهموا في تسهيل نجاح الغزو الأمريكي،
ثم سكتوا عن تحالف الأمريكان مع النظام الإيراني، وتركوا شقيقهم العراق وحيدا ليسقط رهينة غزو جديد أسوأ من الغزو الأمريكي وأكثر ضررا بأمن المنطقة واستقرارها بمئات المرات.
وبرر بعضهم ذلك الغدر الأخوي بكُرهِ صدام حسين والرغبة في الخلاص منه، وغاب عنهم، جهلا أو غباوة أو خباثة، أن العراق لم يكن يوما صدام حسين، مثلما لم يكن أحمد حسن البكر ولا عبد السلام عارف ولا عبد الكريم قاسم ولا حتى الملك فيصل ونوري السعيد.
ولم يخطر لهم على بالٍ أن الغازي الإيراني الطائفي الحاقد والطامع الذي تحركه أحلامه المتجددة في إعادة الحياة إلى أمجاده الامبراطورية القديمة البائدة لن يتوقف عند حدود العراق مع شقيقاته العربيات، بل يريد ما هو أبعد من ذلك بكثير.
وهاهم اليوم ينفقون الغالي والنفيس من أجل اتّقاء الشر الذي نبت فيه، واستوى على سوقه ليقتحم عليهم حدودهم، ويمطرهم بمسيّراته وصواريخه ليل نهار.
ثم سكتوا أيضا، وهم يسمعون مستشار الرئيس الإيراني لشؤون القوميات والأقليات الدينية، علي يونسي، وهو يتبجح، في منتدى الهوية الإيراني، ويقول علنا، دون لف ولا دوران إن : “إيران اليوم أصبحت إمبراطورية، كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتُها بغداد حالياً” ؟.
ومن المكشوف المعلن والثابت أن النظام الإيراني، اوهو لزعيم الأوحد في العراق، لن يسمح لا للكاظمي ولا لسواه بأن يجتهد فيسعى لإعادة اللُحمة القديمة بين الشعب العراقي ومحيطه العربي إلا بالمقدار الذي يخدم مصالحه أولا وقبل أي شيء آخر.
ويبدو أن أشقاءنا العرب، حتى اليوم، وحتى بعد نزول النازلة ودخول العراق، شعبا وحكومة، في الجيب الإيراني، ما زالوا مصرين على أن لا يؤدوا واجبهم الأخوي والديني والقومي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من وطنٍ ضياعُه ضياعٌ لهم، وفقره فقرٌ لهم، وخرابه خرابهم.
ألم يتحول إلى ورشة لصناعة المفخخات والمسيّرات والصواريخ التي سيأتي اليوم الموعود فتدك مدنهم وقراهم كل يوم؟
وألم يصبح قاعدة متقدمة للنظام الإيراني يرسل منها إلى عواصمهم الآمنة الهانئة مليشياتِه وأسلحتَه وأمواله لتخريبها، ولترويع شعوبهم، ولحصارهم في منازلهم، وهم قاعدون؟.
وقد يكون بعضهم قد أفاق ولو متأخراً ولكن لم يعد في يده حيلة بعد فوات الأوان.
ولكن المحزن الحقيقي أن حكومات عربية شقيقة مقتدرة ما زالت تعمل بكل ما في وسعها لمزيد من تفكيك وحدة الشعب العراقي، وتعميق أزماته، وإنهاكه، مع سبق الإصرار والترصد.
فهي ما زالت، إلى اليوم، رغم وضوح الرؤية، تغدق بالأموال على مليشيات متوحشة شيعية عراقية إيرانية الولاء، وعلى أحزاب سنية هزيلةٍ أصحابُها انتهازيون وطائفيون مُفرقون لا جامعون، ومخربون لا مصلحون، مدفوعةً بخوفٍ من عراق ديمقراطي موحد وقوي محتمل تظن أنه سيهدد وجودها من جديد. رغم أن العراق الذي تخافه يخافه شعبه قبل سواه، وقد ذهب إلى غير رجعة، وأن عراقاً قويا موحدا وهانئا ومزدهرا كان في الماضي، وسيكون في الغد، حزام أمانٍ لأشقائه وأصدقائه، أجمعين.
وسؤال أخير، إذا كان لا أحد يستطيع أن يُعيّن ساعيا أو حارسا في وزارة، حتى لو كان الرئيس الأميركي جو بايدن، بشحمه ولحمه، إذا لم يحصل على موافقة المندوب السامي الإيراني أو أحد وكلائه المعتمدين، فكيف وبأي منطق وتحت أية شريعة يمكن أن يعود عربيٌ إلى شقيقه العراق، خصوصا إذا كان مخلصا ونزيها قادما بشهامة ليساعد الشعب العراقي على الخلاص من بعض قيوده الإيرانية، ومن بعض خرابه، وبأي وجه، وعلى أي أساس؟!