18 ديسمبر، 2024 6:02 م

من وحي شهريار وشهرزاد (73)

من وحي شهريار وشهرزاد (73)

حاشا للعشق أن يكون مثليّا
شهرزاد : توقفنا في المرة السابقة عند قولنا ( إتصال النفوس ) كأننا لا نفرق بين ذكر وأنثى ، ولا أظنك ترضى بعشق بين ذكرين أو أنثيين ؟! .

شهريار : أنها خدعة كبيرة يخدع بها المثليّان نفسيهما ، فلايمكن لأتصال النفوس أن يبلغ حد الإمتزاج والعشق إلا بين نفسين نِدَتِين ، والنفسان الندتان شبيهتان متناظرتان متماثلتان ، فتسكن كل نفس الى مثيلتها في الطبع ، وحاشا أن تكون السكينة بين مثيلي الجنس فهما ضدان ، وكل ضدين متخالفين متنافرين مقاومين لبعضهما عند طلب السكينة ، كقطبي المغناطيس المتساويين ( موجبين أو سالبين ) فهما متنافران ، وكما يقول أهل علم الكلام ، وقد مرّ ذكره ، فالـ (ضدان لا يجتمعان في مكان وزمان واحد )، فكيف يجتمع (المثليّان) على السكينة وهما متنافران في أصل الخَلق ؟! .

وما ذهب إليه بعض المحققين لرسالة ابن حزم ، أنه في تعريفه للعشق ( إتصال أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة فى أصل عنصرها الرفيع) ، لم يفرق بين الذكر والأنثى ، أجده رأيا مجحفا ، فقد وضع السكينة نتيجة متحققة للعشق وإستشهد بقوله تعالى في القرآن الكريم : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) .

أمّا ما ذكره الأندلسي من قصص الرجال والغلمان (المتودّدين ) لبعضهم البعض ، فليس دليلا على أنه عشق، فقد أكد في أكثر من موضع أن الشهوة أحدى درجات المحبة الفانية بفناء مقتضياتها والعشق عنده لا ينقضي إلا بالموت ، فهذه الشهوات ليست عشقا أبدا .

يقول أبن حزم : ( المحبة ضروب ، فأفضلها: محبة المتحابين في الله عز وجل، إمّا لاجتهاد في العمل، وإمّا لاتفاق في أصل النحلة والمذهب ، وإمّا لفضل علم يمنحه الإنسان؛ ومحبة القرابة، ومحبة الألفة في الإشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من إتصال النفوس، فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت) .

ولو سلّمنا جدلا بأن الشهوة والعلاقة الحميمية أحدى درجات المحبة ، وأنْ كانت فانية ، فانها لا تتحقق بين المثليين (رجلين أو أمراتين ) إلا بعد ان يتشبّه أحد الطرفين فيها بالجنس المغاير ، فيتشبه أحدهما بالأنثى ، او إحداهما بالذكر ، لتكون أو يكون مستساغا عند الطرف الآخر في العلاقة ، وهذا لعمري أكبر دليل كوني على إنها علاقة شاذة مصطنعة .

شهرزاد : لكن ما الذي يحمل مَثِلين متضادين على علاقة كهذه صارت تدافع عنها بعض المجتمعات الغربية وحتى الشرقية ؟!.

شهريار : قد يكون شذوذا خلقّيا وهو نادر ، وإصلاح هذا الحال صار بمتناول الأيدي من خلال عمليات جراحية ، فميول الرجل لأن يكون أنثى ، والعكس الصحيح ، أسباب فسيولوجية في بعض الأحيان ، لكن الأسباب النفسية سواد أعظم لتلك العلاقات ، والصدمات المتأتية من تحرش جنسي في الصغر ، او سادية جنسية في الكبر ، كفيلة بإقناع أصحاب النفوس الضعيفة بضرورة مخاصمة الجنس الآخر والركون الى المثيل الجنسي بوصفه ركنا منيعا عن التحرش او الإذلال الجنسي ، والمفارقة ياشهرزاد أن (المتحول الجنسي) قد يضطر الى التشبه بالجنس الذي قرر مخاصمته ليكون مُرضِيا لشبيهه من جنسه! .

وقد يقول قائل: ان التحرش والإذلال الجنسي قد يكون كفيلا بدفع المراة الى علاقة شاذة مع أمراة أخرى ، فما بال الرجال ؟.

ونقول :ان تحرش رجل شاذ بطفل او مراهق يسبق في غالب الأحيان أي علاقة حميمية لذلك الطفل او المراهق بإمراة ، وبالتالي فانه ينغمس في هذه الشهوة الشاذة ويظنها طريقا الى السعادة الدنيوية ، وينغلق على الشواذ من الرجال ويخاصم النساء بوصفهن لذة وسعادة ناقصة ، وأفضل ما يمكن فعله لتخلص ذلك المراهق من عواطفه وغرائزه الشاذة تشجيعه على علاقات محبة بريئة مع النساء في محيطه ليتلمس قلبه الرقة والأنوثة على حقيقتها ، ويسترجع إحساسه الرجولي الصلب قبل فوات الأوان .

إن العشق ياشهرزاد : تناسب روحين في عالم النورانية ، وحدث خارق للطبائع الأرضية ، وحاشاه أن يكون متجسدا بالشهوات والملذات الملموسة او المرئية،فهو كشعاعين من مصدر نور واحد حُجِبَ إمتزاجهما خلف سلوكيات وأحوال دنيوية ، فلما زاد انتشار أحدهما بقوة البحث عن النظير المتجانس المتمم ، تجاوزَ العوارض ورأى الحقيقة الغائبة ، فإتحدا عبر أثير طيب برائحة الجنان ، وأنارا من حولهما كل ظلام ، حتى كأن أحدهما غمامة مزدانة بأشعة شمس مخفيّة ، فلما تمازجا أبرقا وأمطرا خيرا وفيرا نشر السعادة في قلب كل مجاور ومحب ، وقد يعم ذلك الخير حتى يبلغ قلوب القساة فَتلين ، ونفوس العتاة فتطيب ، لكنه في الأحوال كلها يصيب النفسين العاشقتين بضروب من الرعد والأنين ، فلا انفصال و لا توقف ، وكلما امتزجتا أكثر زادت الطاقة المنبعثة من التناغم ، وتضاعفت معها نار الوجد والشوق ، فلا القرب يطفؤها ، ولا البعد يفنيها .

 

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]