22 نوفمبر، 2024 6:24 ص
Search
Close this search box.

من وحي شهريار وشهرزاد (70)

من وحي شهريار وشهرزاد (70)

العباقرة
شهرزاد : برغم ذلك الأخذ والعطاء الذي جسد أرق معاني التكاتف الأسري في حكاية (أعظم رجل في العالم ) ، لكنني أتطلع الى أسباب أخرى تحول دون محبة معلنة بين الأشقاء والشقيقات ، صغيرهم وكبيرهم .

شهريار : كأن عليّ أن أذكّرك دائما بإن ( الأنا المتعالية ) سبب رئيس في ضياع المحبة بين الأخوة والأخوات ،ولا تنحصر مسؤولية الوالدين بتوصية المحبة المتبادلة بين الجميع ، وإنْ كانت أطلاقات المحبة الدائمة تطفئ نار الأنا المتعالية، وتجسد أنقى المشاعر الإنسانية بين أفراد الأسرة ، وترسم لوحة ( نحن فقط )، فإن ثقافات ضائعة في تلك الإطلاقات كـ( التواضع والإبتسامة والإعتذار والمسامحة) من شأنها أن تنسف ذلك الترابط ، ولعل أعظم إرشاد يقدمه الوالدان هو التحلي بتلك الإطلاقات أبتداءً ، لايمكننا بأي شكل من الأشكال أن نعلّم أولادنا تلك الثقافات من غير أن نكون سبّاقين لها ، فإن السلوك العام للوالدين يصنع أعمق مراحل الحتمية النفسية (التركيبة الشخصية للأبناء والبنات ) ، وعلى هذا الأساس : إنْ كان الوالدان متواضعين ، متسامحين ، معترفين باخطائهما ، معتذرين عن أي اساءة منهم عمت تلك الثقافات الضائعة في مجتمعاتنا عموما ،وصارت منهجا قويما لتعامل الأشقاء والشقيقات ، فإن عرفنا أن كل أسرة هي لبنة حيّة في مجتمع كبير ، حرصنا على إشاعة تلك الثقافات في منازلنا ، لنضمن إطلاقات محبة وسعادة وإستقرار في بيوتنا ثم في مجتمعاتنا وذلك هو غاية الغايات .

كل مشاكلنا إجتماعية ياشهرزاد ، فكل ما يحيط بنا من أمراض القلوب كالكراهية والضغينة والتنافس غير المحمود ، وتقديم مصالح الفرد على مصالح المجتمع ،وضياع الأوطان ، والحروب ، والتقاتل بين أبناء البلد الواحد تحت مسميات لانسمع عنها شيئا في أزمنة المحبة هو في الأصل مشاكل إجتماعية.

في المنزل الواحد ( المجتمع الصغير) نحن بحاجة الى التخلص من تلك الأمراض ، فإن كان تحقيق النصر الداخلي بمسامحة النفس وتقديرها ودعم مواهبها الخاصة والأعتذار لها عن أخطاء الماضي ، والتمسك بالقيمة العليا منطلقا لمسامحة الأشقاء والشقيقات والأبناء والبنات وتقدير ذواتهم ومهاراتهم وبالتالي تحقيق التكاتف والمحبة الدائمة ، فأن تلك الثقافات التي جعلت منازلنا في غاية السعادة والإستقرار ستكون قاعدة متينة ينطلق منها الجميع نحو تحقيق النصر العام في ميادين الحياة .

وقد نقترب من الصواب إنْ شبّهنا أحد تلك المنازل السعيدة بمجموعة من العباقرة الذين نجحوا في إعمار جزيرتهم الصغيرة ، وقاموا بإنشاء منازل ضخمة ،وزرعوا مساحات كبيرة بأشهى أنواع الفواكه والخضروات ، تسقيها جداول عذبة تمر بقرب تلك المنازل بشكل متساوٍ تقريبا ، وعلى أغصان الأشجار العالية تعيش كل أنواع الطيور ، وفي المزارع حقول دواجن ، ومياه البحر المحيطة بالجزيرة تغدق عليهم بأفخر أنواع الأسماك ، بل إنهم يحصلون على اللآلئ والمرجان بمهام غوص يسيرة ،وجادت عليهم الجبال بما يحتاجون إليه من المعادن والأحجار ومواد البناء لتنفيذ مشاريعهم ، ولأنهم مجموعة من العباقرة فقد أجاد كل واحد منهم في مجال تخصصه ، فمنهم من أمّن الإتصالات ، ومنهم من أوجد الكهرباء ، وآخرون أبدعوا في بناء الطرق والجسور، والأطباء حرصوا على بناء مستشفى كبير مجهز بأعلى التقنيات ، وكانت قليلا ما تصيبهم الأمراض لأنهم يعيشون وسط طبيعة غناء ، وليس في تلك الجزيرة شرطي واحد ، فكل فرد يعرف واجباته وحقوقه ، وهو يعمل من أجل تحقيق ذاته فهو ليس بحاجة الى المال .

أنهوا كل مشاريعهم وبنوا حضارة متكاملة ثم بدأوا يفكرون في نقل إبداعاتهم الى العالم الخارجي ، وتكاتفوا في مشروعهم لبناء مركبة فضائية تنقلهم الى تحقيق إنتصارهم الجديد ، فلما أكملوا بناءها ، إطمأنوا الى أن القواعد التي أسسوا عليها تلك الحضارة قادرة على تأمين إنطلاق آمن لمركبتهم العظيمة التي سرعان ما حطت في أرض شبه جرداء ، وأنطلق كل عبقري منهم يُعلّم مجموعة من البسطاء أسرار الحضارة التي جاء منها .

وقد يكون واضحا أن العبقرية في هذا التشبيه دلالة على القيم العليا والمهارات الخاصة التي أودعها الله في كل فرد منا ، والخيرات المحيطة بتلك المجموعة هي إطلاقات المحبة المتأصلة في النفوس التي تلهم الإبداع والرقي بالتعامل ، وتجسد مبدأ الأخذ والعطاء لإعمار القلوب قبل الأوطان ، وتلك الحضارة هي حصيلة التكاتف بين أفراد الأسرة ، ولأنه تكاتف مبني على أسس متينة فقد صار منطلقا الى المجتمع المتعطش الى أسرار السعادة المرسومة على وجوه الوالدين والأشقاء والشقيقات فهم مثل يحتذى لنشر ثقافة المحبة في ميادين الحياة .

يقول مؤسس علم النفس الفردي الدكتور النمساوي ألفرد أدلر : “ليس لدينا مشاكل في حياتنا سوى مشاكل أجتماعية ، وتلك المشاكل الإجتماعية يمكننا حلها فقط أذا كنا مهتمين بالآخرين “.

نعم ياشهرزاد إن الإهتمام بالآخرين دليل ، لا يقبل الشك ، على محبة حقيقية قوامها التكاتف والتقدير المتبادل ، ومن غيره لايمكن تحقيق النجاح الخاص أو العام ، فذلك الأهتمام أعمق رغبة في نفوسنا ونفوس الآخرين .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]

أحدث المقالات