22 ديسمبر، 2024 12:38 م

من وحي شهريار وشهرزاد (69)

من وحي شهريار وشهرزاد (69)

أعظم رجل في العالم
شهرزاد : بمثل هذه النماذج الراقية متمثلة بالمرأة المعطاء (فردوس) التي تحدثنا عنها في المرة السابقة يمكننا التفاؤل دائما بأن الأخ الاكبر والأخت الكبرى كنز ثمين يغدق على أفراد الأسرة محبة وعطفا وحنانا لامثيل له ، لكن ما الذي يمكن أن يقدمه الأشقاء والشقيقات الأصغر سنا مقابل كل هذا العطاء ؟

شهريار: لاأنكر أبدا أن مفهوم (الأخذ والعطاء) ينطبق على جميع العلاقات الإنسانية الراقية ، لكن ما يميزه حقا إن كل طرف ينافس الطرف الآخر ليكون أكثر عطاءً ،بخلاف العلاقة المصلحية التي ينتظر فيها كل طرف أن يكون نظيره سباقا في العطاء ، وكل العلاقات آنفة الذكر من الصداقة والأخوة والزمالة وعلاقاتنا العامة مع الناس الطيبين في محيطنا علاقات إنسانية مميزة وفقا لهذا الطابع التنافسي ، ومع أن الأخ الأكبر ( الأخت الكبرى) في معناه الأصيل يجد ثمرة عطائه في نجاح الشقيق الأصغر(الشقيقة الصغرى) ،على إعتباره صاحب رسالة (أبوية ) كما مر ذكره ، لكنه بالنتيجة إنسان ينتظر المقابل ، وأني أجد في الثناء والإهتمام غاية الغايات لدى الأخ الأكبر ، إنه يحمل صفة عجيبة ( الأب الصديق الصغير )( الأم الصديقة الصغيرة)، وتخيلي لو أن (فردوس) حصلت على الثناء المستحق من أشقائها وشقيقتها بعد أن أوصلتهم الى بر الأمان ، كقول أحدهم لها : (بدونك يا أختي الحبية ماوصلت الى النجاح الذي وصلت إليه) ، أو : (كنتِ أختي وأمي وفضلك لا أنساه ما حييت ) ،وربما تقول لها أختها الصغرى : (والله لو كانت أمي على قيد الحياة ما رعتني كما رعيتني أنت ).

لو سمعت فردوس مثل تلك العبارات الرقيقات المستحقات لكانت أسعد مخلوقة في الدنيا وهي تقضي السنوات العشر الآواخر مع أبيها المقعد.

إن الثناء المستحق شهادة إنسانية عليا يمنحها المعترفون بالفضل لصاحب العطاء ، فيزده ذلك سخاءً ومحبةً وتقديرا لذاته وكل الطيبين من حوله .

فكما إن الأخ الأكبر ضحّى ،بكل ما يستطيع ، بمحبة منطلقة من أعمق مشاعره ، فإن الثناء الرقيق ، بنبرة الصوت المُقِّرَة بالفضل ترافقها إبتسامة محبة ، سيلامس أعمق نقطة في نفسه ، ولنتذكر هنا ما قاله وليام جَيمس : “أعمق مبدأ في الطبيعة البشرية هو إلتماس الثناء “.

أمّا الأهتمام بالأخ الأكبر المعطاء فهو إطلاقات محبة في غاية الأهمية ،كأننا نوصل رسالة رقيقة الى قلبه مفادها : (نهتم بك تماما كما تهتم بنا).

أنْ يكون أحدنا موضع إهتمام الآخرين فتلك غاية الغايات ، هكذا خُلقنا شهرزاد ، ولنتخيل هنا مشهدا إنسانيا في غاية الرقة : أخ أكبر يرعى أشقاءه وشقيقاته بعد وفاة أبيهم ، وقلبه مشفق على الجميع إلا نفسه ، فقد نذرها ليصل بالحِمل الثقيل الى آخر الطريق ، ومع إن الأم تبذل قصارى جهدها في وظيفة حكومية حسنة ، لكن متطلبات الحياة كانت تحتاج لمورد آخر ، وهو ما أدركه ( الأب الصديق الأصغر ) فترك دراسته الجامعية وانخرط في ميادين العمل الحر ، وقد وفقه الله بعد عامين من الإجتهاد لناجح باهر في التجارة ، ونجاحه الأكبر ،خلال الأعوام الخمسة الأخيرة ، كان ببلوغ شقيقتيه التوأم دراستين جامعيّتين مرموقتين ، وتكادان تتخرجان بينما بلغ شقيقه الصغير آخر المراحل الإبتدائية، ومع قرب الموسم الدراسي الجديد حلّت ذكرى ميلاد الأخ الأكبر بكل ما تحمل الصفة من قيم عليا ، إعتاد ،في الأعوام السابقة ، أن يعود الى البيت في مثل ذلك اليوم ليجد إحتفالية صغيرة يتعاون عليها أفراد الأسرة للتعبير عن محبتهم وإهتمامهم ، لكنه حينما دخل الى المنزل لم يجد أي مظهر للإحتفال، وكل أفراد الأسرة في غرفهم الخاصة ، وقد وقع ذلك في نفسه قبل أن يخاطبها قائلا : “لم أعد صغيرا .. لابأس ربما انشغلوا بالتحضير للعام الدراسي الجديد .. لقد أخذوا مني بالأمس مبلغا كبيرا من المال لشراء ملابس جديدة وأشياء أخرى لم يخبروني عنها ، ربما لم يبقَ لديهم مايشترون به كعكة ميلادي لهذا العام “.

إبتسمَ بمرارة وانصرف الى غرفته لينام ، وماهي إلا دقائق حتى طرق شقيقه الأصغر الباب ودخل عليه وهو يحمل ظرفا كبيرا مغلقا مزيّنا بأشرطة ملونة .

– ماهذا حبيبي ؟

– إفتحه وسترى .

في الظرف الكبير وجد ورقة قبوله في كلية خاصة تمنحه ذات التخصص ( أدارة أعمال ) الذي كان يحبه كثيرا وتخلى عنه في كليته الأولى قبل 7 أعوام من أجل أن يكمل الرسالة الخالدة بعد وفاة والده ، تبسم واغرورقت عيناه بدموع الفرح وهو يحتضن أخاه الصغير، في تلك اللحظات الحالمات دخل عليه بقية أفراد الأسرة ، وبعد تهنئة سريعة ومعانقات في غاية الرقة ، قال الشقيق الأصغر الذي (حفظ الدرس) بشكل جيد : عليك أن تترك السوق وتذهب الى الكلية قبل عصر كل يوم ، كما أن عليك أن تدفع بقية أقساط الكلية في السنوات المقبلة ، لقد دفعنا كل ما لدينا إضافة الى المبلغ الذي أخذناه منك بالأمس لنسجلك طالبا في المرحلة الاولى.

في تلك اللحظات ياشهرزاد أحس الأخ الأكبر بأنه (أعظم رجل في العالم) ، وقد أحاطه الجميع برعاية ومحبة لا مثيل لها : ولسان حالهم يقول : (نحبك ونهتم بك كما تهتم بنا تماما ).

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]