18 ديسمبر، 2024 6:09 م

من وحي شهريار وشهرزاد (66) تاج الرضا

من وحي شهريار وشهرزاد (66) تاج الرضا

شهرزاد : ليس كل تنافس بين الأشقاء والشقيقات يخلق الشحناء فيمابينهم ، ألا تتفق معيَ على ذلك ؟

شهريار : نعم ، وقد ذكرنا آنفا أن الظروف القاسية التي تعصف بالأسرة تكون أعظم مدعاة للتنافس تحت سارية التكاتف ، وكلما زادت الأيام قساوة تجسدت تلك المعاني بأبهى صورة.

ولايقف التنافس المحمود بين الأشقاء والشقيقات عند هذا الحد ، فعندما تكون أنوار المحبة منطلقا له فإنها تشيعُ أجواءً رحمانية تبعث أقصى قدرات الإبداع عند كل طرف ، وكأننا في جنة أرضية يزرع كل فرد فيها حديقة غنّاء يرويها بأعذب المياه ، ويرعاها بإبتسامة دائمة نابعة من قلب محب لعمله ، وعيناه على الحدائق المجاورة ، وهي لا تقل جمالا ورقة ، وهو بالنتيجة لا يملك إلا أن يبتسم في كل مرة يمعن النظر فيها الى شبيهات إبداعه ، فإذا أرجع بصره الى جنته الصغيرة إبتسم مرة أخرى، ذلك التنافس الرقيق المفعم بالأنوار المودة وإرادة الإبداع قد يكون مبعثا لإطلاقات محبة خاصة جدا تترك أثرا سحريا في القلوب فلا تصيبها أمراض الكراهية أو الحقد ولا حتى الضغينة .

ودعيني أضرب لك مثلا حيّا ، فإن من أرقى درجات التنافس المحمود تسابق في إرضاء الوالدين ، وتلك أسمى الغايات ، فهي طريق واسع الى الجنة ، ومن قبل ذلك سبب للنجاح والتوفيق على الأرض.

وقد شهدتُ في بيتنا الكبير تنافسا بمنتهى الروعة يتسابق فيه الجميع على أرضاء الوالدين ، ومع كل إطلاقة محبة ترسم البهجة على وجه أمي أو علامات القبول على محيا أبي ، كانت تعم الإبتسامة على وجوه الجميع ، غير أن إحدى أخواتي -التي أحب أن أسمْيَها زهرة السوسن- كانت لا تُجارى في هذا الميدان ، فهي تنفق كل مرتبها الشهري بسخاء عجيب ليس فقط لسد إحتياجات المنزل ، أو شراء هدية للوالدين ، بل إنها تنفق أموالا كثيرة لإعانة العوائل الفقيرة بإشارة من أمي ،وكيف لا تكون زهرة السوسن وهي كوردة بيضاء تطفو على نهر المحبة بلا منافس لتشع عبيرا وحنانا على الجميع ؟

رفضت فرصا عديدة للزواج وإنشغلت بوظيفتها الحكومية ، وإرضاء والدَيّها ، وإحتضان اليتيم ،ومساعدة الفقير ، ودعم منكسر كبير ، ورسم البسمة على ثغر طفل صغير حتى تجاوزت الخامسة والأربعين .

كنت أرقبها عن كثب وقد مال لونها الى الشحوب وسرق العمر إبتسامتها ، وكأنها شمعة منيرة أطفاتها ريح عاتية،لم يدم الأمر طويلا حتى رأيتها في المنام تلبس تاج مرصعا باللآلئ وكأنه (تاج الرضا) .

دنوت منها في اليوم الثاني ، وهي تعد الطعام لوالدَيّ ، وقلت بصوت كله ثقة : هل تعرفين إن الله قد أعطاك ما لم يعطِ أحدا من أشقائك وشقيقاتك .

إلتفتت اليَّ بإبتسامة تفاؤل وقالت : وماذلك ؟

– لقد أعطاك القدرة والمكنة لأرضاء أمي وأبي كما لم يعط أحدا منّا ، وإني لأشعر بالغيرة منك أحيانا ، وإعلمي أن جميع منافسيكِ يقرّون بالغلبة لك ، ولا أعتقد أن أحدنا سيكون قادرا – وهو منشغل بهموم عائلته ومسؤولياتها – أن يجاريكِ يوما ، فهنيئا لك أختي الحبيبة وأنت تلبسين تاج الرضا.

لقد كان موقفا لم أشهد كرقته حتى يومنا هذا ياشهرزاد ، تعانقنا وقبلتها من جبينها ،وفاضت دموعنا بأحلى إطلاقات المحبة التي مازالت تظللنا حتى يومنا هذا .

مات أبي في حجرها ، وإنها لخيمة حانية على الجميع بعد رحيله ، ومازالت تنفذُ أوامر (العطاء ) الصادرة عن أمي بل وتنافسها بقوة ، فهي زهرة السوسن الطافية على نهر محبة يتنافس الجميع في أطلاقاته ، لكنها ترفل بتاج الرضا بدون منازع .

وحري بنا أن نقول : أن إطلاقات المحبة التي تمس أعمق نقطة في نفوس أشقائنا وشقيقاتنا كنز مودة لا تفرغ خزائنه أبدا ، ومن كان يحمل في جوفه قلبا طيبا فستدله أنواره على مكامن تلك الأحاسيس المجروحة ليُسعفها برعايةٍ وتقديرٍ لمواهبهم وإبداعاتهم ، ويكونَ بلسما منسابا الى أعماقهم .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]