خلاصة الصداقة
شهرزاد : لاأظنني بحاجة الى إستفسارات أخرى ، لكنني أتطلع – كما إعتدنا في نهاية كل حديث – الى خلاصة تبقى في ذاكرتي ، وتعينني دائما على إنتقاء أصدقائي وربما تجنبني صدمات العلاقات الفاشلة .
شهريار : خلاصة القول إن الصداقة متلازمة الطبيعة البشرية ،الكل يبحث عن الصديق الصدوق وكأنه سر الطمأنينة ، ما يعتلج في صدورنا كثير ، والكشف عنه جد خطير ، وإننا لنبخل به حتى على أقرب المقربين منّا ، فربما تكون تلك الأسرار صدمة تحيل المحبة الى كراهية ، والإحترام الى نظرة دونية ، وليتها تلك الحاجة الملحّة تقف عند عَوَزنا الشديد الى خزينة أسرار في غاية الإحكام ، بل إنها تمتد لآفاق أعظم تلامس أعمق مكمن في نفوسنا ، تلك هي الحاجة الى رفيق أحلامٍ تَطْلبُ الدعم اللامحدود ، والتكاتف بلا حدود، لترى النور بعد مشوار طويل ، وكل ذلك يجري بإنسجام نفسيّ متوازن عابر لمفاهيم الجسد وشهواته ورغباته .
حينما نتعاهد على صداقة صدوقة فإن نفوسنا تبتعد على ظلام الأجساد ونزواتها ، و(الأنا) وأنانيتها ، والمصالح الشخصية وشرورها ، وبالتالي فإنها تقترب من الأرواح وأنوارها ، ومعاني التضحية ورونقها ،وروح التكاتف وطاقاتها ، فالصداقة الصدوقة لون من ألوان المحبة ، لكنها تتميز عمّا سواها بقدسية عابرة للأجساد .
ولأنه رفيق الآمال والأحلام ، والهموم والآلام ، وهو المرآة التي تستوعب كل صورنا المجنونة ،وتخفي نقاط ضعفنا المكنونة ، وهو القارئ الحكيم لما بين السطور ، العارف بالأحوال وخفايا الأمور ، المطلع على مايقال ومالا يقال ، وهو الوحيد بين الأحباب الذي لا نحدثه من وراء حجاب ، فإنه بالنتيجة ذو مواصفات نادرة ، وطبيعة ساحرة ولن يكون في متناول أيدينا من غير بحث وتفحيص وتمحيص .
وكما أن المحبة الإلهية تدلنا على الطيبين ،وتكشف لنا المخادعين ،فإنها سبيل مبين لأختيار صديق حميم ، وإنني لأؤمن بأن المعرفة المسبقة في عالم الغيبيات – حينما أخذ الله علينا عهد عبادته سبحانه – أحد أهم المؤشرات على الصديق الصدوق ، تلك المعرفة المسبقة تدلنا على الصديق في أول تعارف بيننا ، ويعتلينا إحساس صادق بأننا نعرف هذا المخلوق من قبل أن نراه بقرون لا تحصى ولا تعد ، وغير المعترفين بذلك المشهد الرباني العظيم يقّرون بإحساس المعرفة المسبقة مع من يتخذونهم أصدقاء صدوقين لهم.
أنوار المحبة المتأصلة في نفوسنا أول الغيث ، والمعرفة في عالم الغيبيات قطرات سخية تنهال على قلوبنا المتعطشة لمرآة النفس ، وجولات الإنسجام النفسي هيكل متين لمشروع الصداقة ، ثم إختبار رصين لـ(خزنة الأسرار) التي أوشكت أن تكون واقعا ، وإنه لأحساس في غاية السعادة أن نرتقي تلك السلمات الأربع ، لنصل الى قلعة محصنة نودع فيها كل مايعتلج في صدورنا ، ونبلغ من خلالها أعلى الغايات ، ونحقق بدعمها أكبر الأحلام والأمنيات.
وقد تتوقف الأحلام المشتركة والأهداف المتكاتفة في مرحلة من مراحل الصداقة ، وحينها نبلغ مفترق طرق لا مناص منه ، فكما أن الحياة مراحل فالصداقة مراحل لكنها قد لا تنتهي حتى الرمق الأخير ، وقد نضطر في كثير من الأحيان الى فراق الصديق من غير خيانة وضغينة و تفريط ، لكنها دروب مختلفة ، وأحلام متفاوتة وقناعات متضاربة ترسم النهاية الحتمية ، وفي الأحوال كلها تبقى تلك الصداقة علامات فارقة في مسيرة الطرفين ، فإن التقيا بعد أعوام وأعوام تعانقا ، وتجددت في نفسيهما حماسة اللقاء الأول ، وأسرار مازالت في بئر عميقة لم يطلع عليها إلا الله، وذلك قمة الوفاء لصداقة لم يبقَ منها إلا الذكريات .
وإن قلوب المخلصين لعرضة لأمراض الغرور والكبر ، وإن المناصب العالية والأموال الطائلة ، والشهرة الفنية والأدبية والعلمية أسباب كفيلة بإيهام الصديق الصدوق بأنه لم يعد محتاجا الى غيره ،وأنه أعظم رجل في العالم ، وأن أصدقاء الأمس قد يكونون أعداء اليوم المتربصين به وبما وصل إليه ، وأنهم مؤشرات أخطاءٍ جسيمة إرتكبها في مراحل سابقة من حياته ، وعليه أن يتخلص منها الى الأبد ، وبرغم تلك الأمراض فإنه قد يضطر الى إظهار آثار محبة قديمة في لقاء عابر أو جلسة مفاجئة ، لكنه في الحالات كلها مثقل بالغرور والكِبْر ، والخوف من الذكريات ، فتجبره قناعاته الجديدة المخادعة على نظرة فوقية وتصرفات بربرية تجرح الصديق الصدوق ألف مرة في كل كَرّة ، ومن أحبه القدر نآى به عن ذلك التجريح المستدام ، فرحيل الصديق الحميم الذي أمسى مغرورا متكبرا ، أعظم هدية تمنحها لنا السماء برغم مرارة الفراق .
وليعلم الأباء والأمهات أنهم بحاجة الى أن يكون لأولادهم أصدقاء مقربون ، يساعدونهم على أنتقائهم بإرشادهم الى مفاتيح الصداقة ، والقصص والعبر أبلغ درس نعلمه لأبنائنا من دون التدخل بإختياراتهم .
وتكمن حاجة الوالدين الى أصدقاء أبنائهم وصديقات بناتهم بأنهم مفاتيح أسرارهم ، وكل تصرف غريب وسلوك معيب لا نعرف له تفسيرا مقنعا ،في أولادنا، سنجد إجابته الشافية في تلك الصدور الطيبة التي لن تكشف الأسرار ، لكنها بوصف المرآة العاكسة ستدلنا ،بطريقة ما ، على حل ينجي أبناءنا من مهالك وأزمات .
ولن نحابي الرجل إنْ قلنا إنه أكثر حفظا لأسرار الصديق من المرأة ، ذلك أنه المخلوق البشري الوحيد الذي لا يسعده أن يكشف أسرار إخفاقاته بوصفها إذلالا لقدراته على الإنتصار والنجاح ، فكيف له أن يجد الحل لأخفاقات غيره من خلال البوح بأسرارهم ؟!
أمّا المرأة العاشقة للدعم والمساندة فتجد في مشاركة الآخرين همومها مدعاة لمزيد من التعاطف والإهتمام الذي تعتبره بلسما لجراحها وإن لم يأتِ بحلول ، فكيف لا تسعى الى تحقيق مثله لهموم وأحلام صديقاتها ؟!
غير أن المرأة الحكيمة المدركة لخطورة الكشف عن كثير من الأسرار تتجاوز تلك الطبيعة ، وقد تكون أكثر حرصا من الرجل لأنها تشعر أكثر منه بصعوبة افتضاح أسرار مهلكة لبنات حواء ، لا سيما في مجتمعاتنا الشرقية،وبرغم تلك الحكمة إلا أن سر المرأة المودع في أعماق رجل حكيم يبقى سرا مستعصيا على الجميع الى النهاية .
ولأن مجتمعاتنا الشرقية والعربية منها على وجه الخصوص لا تقبل مبدأ الصداقة بين الرجل والمرأة ، فان من الحكمة أن تكون تلك الصداقة تحت مظلة إجتماعية محمودة، وحبذا ذلك الزميل الصديق ، أو القريب الصديق ، أو الأخ الصديق الذي يمنع الشبهة والإساءة .
وقد نختصر المسافات عندما نقول : إن الصداقة كتاب مفتوح لايجيد قراءته وفهم ما بين سطوره إلا أثنان تعاهدا من غير عهد على أن يكون كل واحد منهما مرآة سحرية للآخر ،فان أقترب منها دخيل أو باحث عن الأسرار لم يرَ إلا لوحة صماء ، ذلك الرابط المقدس يمتد طريقا لأحلام مشتركة لا تسجل انتصارا معتبرا إلا بتحقيقها من دون تجزئة.
إن الصداقة جائزة ثمينة تمنحها السماء للقلوب الطيبة دون سواها ، ولاينبغي لها غير ذلك، وكل ثمين نادر، فاذا شاع فقد قيمته ،وكل باحث عن القيمة والندرة يدرك في قرارة نفسه أن : من كَثُر أصدقاؤه فليس من بينهم صديق صدوق .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]