18 ديسمبر، 2024 6:17 م

من وحي شهريار وشهرزاد (62)

من وحي شهريار وشهرزاد (62)

المرأة الحكيمة
شهرزاد : وجدتك في احاديثنا السابقة عن حفظ السر تنسف دفاعك المستميت عن أسس الصداقة بأن يكون كل طرف فيها كتابا مفتوحا للطرف الآخر وبئرا عميقةً لحفظ أسراره! .

شهريار : حسنا .. يبدو أن كلامي في هذه الحيثية آثار لديك الرغبة بالدفاع عن حواء ، ولك الحق في ذلك ، غير أنني أناقش في القصة السابقة طبيعة بشرية لادخل لها بالرغبة في إفشاء السر ، وكما تعرفين فإن اي قاعدة صارمة مهما كانت محكمة الفرضيات والبراهين فهي بالنتيجة لا تكون بالمطلق ، وقد تكون حكمة (لكل قاعدة شواذ) سيئة المقصد في ظاهرها ، لكن الشاذ عن القاعدة قد ياخذ معنى التميّز ، ومن هنا كانت المرأة التي تحفظ السر حالة مُميَّزة ، فهي تدرك بحكمة بليغة أن التعاطف والدعم المعنوي والمساندة من الأخريات ليست الحل الأمثل لمشكلة خطيرة يعاني منها قلبها او تعتصر قلوب الذين أودعوا لديها أسرارهم ، كما إنها تعي مخاطر البوح بمكنونات النفوس حينما يتعلق الأمر بعلاقة أسرية ، أو علاقة غير مستساغة ،أو خطأ وقعت فيه أمراة قد يؤدي الكشف عنه الى هلاكها ، وهكذا تبلغ المرأة الحكيمة والفَطِنة غاية الحذر والسرية كلما أزدادت خطورة الكشف عن الأسرار ، وأجد في الثقافة العامة ، وقواعد التربية الأسرية الرصينة ، ونصائح مربية فاضلة في المراحل الدراسية الأولى أوجَه الأسباب التي تقترب بالمرأة من حكمة كتم الأسرار.

نحن البشر نستطيع أن نطّور تصوراتنا الذهنية ، وننميَ قيمنا الأخلاقية لكننا في الحالات كلها لا نمتلك قدرة التخلي عن طبيعتنا البشرية ، فالمرأة لا تستطيع أن تتخلى عن رقة القلب وحب الجمال وغريزة الأمومة وهي غير مؤهلة خَلقِيا للتخلي عن طلب المساندة المعنوية والتعاطف والتواصل الإجتماعي ما يجعلها في غاية الحاجة الى البوح بالأسرار المعتلجة في صدرها.

في الجانب الآخر يقف الرجل الذي خُلق عاشقا للتنافس وتحقيق الإنتصارات في ميادين الحياة ، ويَجد الإقرار بالإخفاق خيارا لايمكن القبول به ، وهو لا يطلب الدعم ،ولا يريد أن يُعرض عليه ، وكل مايطمح إليه ثقة الآخرين بقدرته على النجاح ، وهو بالنتيجة آخر مخلوق يبوح بأسراره وأسرار غيره .

الحصيلة ياشهرزاد : إنها لإمرأة حكيمة تلك التي تتغلب – بشق الأنفس – على طبيعتها البشرية وتكون خزينة محكمة لأسرارها والأسرار المودعة عندها ، وأنه لرجل أحمق ذلك الذي يدوس عن طبيعته البشرية ويثرثر بإخفاقاته أو خفايا الآخرين .

تلك المرأة الحكيمة لاتكون عادة مكمنَ سر أو سرين ، بل هي مستودع أسرار معروف يقصدها الكثير من الأهل والأصدقاء ، ولو بحثتِ في ذاكرتك ياشهزاد لوجدتِ بين صفحاتها أمراة قريبة أو صديقة من هذا النوع ، الجميع يقر لها بالفضل ذلك أنها ليست مجرد حافظة لأسرارهم ، بل إنها تجعل من طبيعة التعاطف والدعم والمساندة المعنوية بلسما لجراحات القلوب التي قد تنزف دما وهي تبوح بأسرارها .

وقد حباني الله بصديقة حكيمة تحت خيمة إجتماعية مقبولة ، فهي زميلة لي في أحدى المجموعات الثقافية المميزة على موقع التواصل الاجتماعي ( فيسبوك) ،وبحكم عملنا كمسؤولين في المجموعة فنحن نتبادل الحديث يوميا مع بقية المسؤولين – داخل غرفة محادثة خاصة (الشات ) – عن المنشورات والتعليقات وكيفية تطوير المجموعة والنهوض بواقعها الثقافي ، ونحن على هذا الحال لأكثر من عام ، وكانت غيبيات المعرفة المسبقة تلح علي بأن هذه المرأة (خزينة أسرار لا تجارى) ، وعلى وقع انسجام نفسي كبير كانت تلك الصديقة الرائعة تطلب مني بين الحين والآخر إستشارة أدبية أو فلسفية لمنشورها الخاص في محادثة خاصة ، وبقبعة (السيد الخبير) كنت لا أبخل عليها بأي عِلمٍ أو معرفة نلت منهما نصيبا في هذه الدنيا، وكلما ازدادت ملامح الثقة بيننا طرقت مسامعي عبارة (خزينة الأسرار ) ، حتى جاءت الفرصة السانحة للإختبار .

من بين 6 مسؤولين في غرفة المحادثة الخاصة كانت لنا زميلة عزيزة تمر بظروف مادية سيئة ، وهي أقرب لصديقتي الصدوقة ، فطلبت منها أن تمد لها يد الدعم وأنا كفيل بما تحتاج إليه للخروج من ضائقتها المالية من غير أن تخبرها مَنْ أكونُ، وهي بطبيعة المرأة المتعاطفة العاشقة للدعم والمساندة سألتني لماذا ترفض ان أخبرها عن مصدر المال ؟ .

– لا أريد ان أجرحها أبدا .. إنه سر بيني وبينك .

وعلى أثر تلك الحادثة دارت في الغرفة الألكترونية الخاصة أحاديث وأحاديث عن مصدر المساعدة لكن السر لم ينكشف أبدا .

لم يَخُنّي حسن ظني ، وصَدقتْ معي غيبيات المعرفة المسبقة ، ها نحن اليوم كتابان مفتوحان على مصرعيهما بلا رتوش ولا تكلف ، أعز أسرارها مخزونة في أعماقي وأثمن أسراري مودعة في بئر حكمتها ، أراها نجمة متلألئة في السماء تهتدي بها القلوب الحائرة ، فهي مستودع أسرار لكثير ممن أعرف ولا أعرف ، لكن ( ليلو ) – كما أسميها – إختارت رجلا واحدا فقط ليكون قلعة حصينة تخبئ عنده مكنونات نفسها ،وهي تجد في نصائحي وثقتي بقدرتها على تجاوز المحن طاقة إبداع تعيد لها الأبتسامة والأمل كلما تكالبت عليها الملمات ، وأني على العهد باق مع الزميلة العزيزة والصديقة الصدوقة ما أحياني الله .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]

صفحة 1 من إجمالي 4