من وحي شهريار وشهرزاد (59)
محبة عابرة للجسد
شهرزاد : تتحدثنا في المرة السابقة عن صداقة جمعت رجلين وإمرأة وأنت تحاكي الجميع بدون تمييز، هل تؤمن حقا بالصداقة بين الرجل والمرأة وكأنهما من جنس واحد ؟!.
شهريار : لو عدنا الى كلماتنا الاولى عن الصداقة لوجدنا إجابة منطقية لسؤالك هذا ، عندما قلنا : ” الصداقة أعمق تكاتف مخزون في سرائر النفوس ، تنبعثُ أنواره في الليالي الحالكات ، إنها بإختصار محبة عابرة للجسد ، خالية من المصالح ، رصينة الأسس ، والأهم أنها قاربُ النجاة حينما تتقاذفنا أمواج الإحساس بالوحدة ” .
ولو دققنا النظر في قولنا : (محبة عابرة للجسد) لعرفنا إن الصداقة بمعانيها الروحية المقدسة ليست بعيدة المنال بين الرجل والمرأة ، وكيف لها أن لا تكون ؟ ،والمرأة ذات القلب المتعلق بالجمال والعاطفة الرقيقة وعاشقة التواصل والعلاقات الإجتماعية أسرع إدراكا للإنسجام النفسي وأعظم تعلقا بعالم الغيبيات.
شهرزاد : مهلا بالله عليك .. نحن نتحدث عن علاقة غير محمودة في مجتمعاتنا ولا أظنك تعمم التجربة هنا ؟!
شهريار : لا أخالفك الرأي أبدا ، وأنا أقدر عاليا المقاييس الإجتماعية والمحاذير الشرعية الخاصة بنا ، ودعينا ابتداءً نتحدث عن الصداقة بين الجنسين في المجتمعات الغربية التي تنظر اليها بعين الإحترام والتقدير .
حتى في تلك المجتمعات المنفتحة على علاقات روحية بعيدة عن غرائز الجسد بين المرأة والرجل قد يقول قائل إن الصداقة بين بَشَرِيَين من جنس واحد تكون أكثر انسجاما ، وأعظم صلة عّما سواها ، والمتحكم في هذا الوصف هي الطبيعة البشرية المختلفة تماما بين الرجل والمرأة التي دفعت (جون غراي) الى القول ، إن “النساء من كوكب الزهرة والرجال من كوكب المريخ” .
إنْ أمعنا النظر في القواعد الأساسية للصداقة الصدوقة ( الثقة ، والإنسجام النفسي ، المعرفة المسبقة في عالم الغيبيات ،بئر الأسرار العميقة ، النجاحات المشتركة ، النصح الصادق ، دعم نقاط القوة لدى الطرفين ، أخفاء نقاط الضعف والعمل على التخلص منها ، الدفاع المستميت عن الصديق في غيابه ) ، لوجدنا إن الأمر غير متعلق بتطابق الجنس أو تباينه ، ولا ننسى أبدا إننا نبحث من خلال الصداقة عن تكامل نفسي قد نخفق بالوصول اليه عبر بوابات المحبة الأخرى ، كالأسرة وشريك الحياة ، وإلاخوة والأخوات ، وقد تكون غاية التكامل حينما نتحدث عن جنسين مختلفين ، فالرجل الذي يبحث عن الإنتصارات وتحقيق ذاته في العمل والدراسة ويهوى المنافسة في ميادين الحياة ، ويعبر عن محبته بتحمل المسؤولية ، بحاجة ماسة الى تكامل نفسي مع مايفتقد إليه من السكينة في ميادين التنافس ، والى مايشعره بقدرته على الدعم والمساندة ، وإمكانية تحمله للأسرار ، وصدق نواياه ، وبأنه موضع ثقة عالية تجسد إنسانيته الروحية بمنآى عن ظلمات الجسد ورغباته .
في المقابل فإن المرأة الممتلئة بالعواطف الجياشة والرغبة الملحة بالشكوى من هموم الحياة والأسرة ، والأحلام المبعثرة ، والآمال المنعقدة على السنوات المقبلة ، قد تجد في الرجل خزينة متقنة لا يعرف أن يفك (شيفرتها)، أعظم خبراء النفس البشرية ، لذلك ستكون أسرارها وأحلامها في مأمن أكبر حينما تودعها في صدر رجل حكيم .
يقول غراي : (عندما تتعرض المرأة للضغط فإنها تشعر غريزيا برغبة في الحديث عن مشاعرها ، وكل المشكلات التي يحتمل أن تكون مرتبطة بمشاعرها ، وعندما تبدأ في الحديث فإنها لا تراعي أولوية اي مشكلة حسب أهميتها ، فعندما تكون متضايقة فإنها تكون متضايقة من كل شئ كبيره وصغيره ، إنها غير مهتمة مباشرة بالعثور على حلول لمشكلاتها بل تبحث عن الراحة بالتعبير عن نفسها ، وبأن تكون مفهومة وبالحديث عشوائيا عن مشكلاتها تصبح أقل إنزعاجا) .
ولأن المرأة في طبيعتها ياشهرزاد لا تبحث عن الحلول عندما تتحدث عن همومها اليومية وتطلعاتها الأسرية والوظيفية ، قدر سعيها الى تعاطفٍ وتَفَهّمٍ لأوجاعها ، فإن الرجل الحكيم وهو لايشعر بالمسؤولية المباشرة عن تلك الأوجاع والهموم – بخلاف حاله عندما يدور حديث مشابه مع زوجته – فهو قادرٌ على أن يكون مستمعا منصتا متقمصا لشخصية (المرأة الصديقة) ، متفهما لكل صغيرة وكبيرة ، بل إنه يشعر بطابع جديد من المسؤولية ، لا يتطلب منه الحلول قدر الحاجة الى الإنصات.
نحن لا نتحدث في هذه العلاقة المفترضة بالمجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الشرقية عن نقيضين( لا يجتمعان ولا يرتفعان في وقت واحد ومكان واحد كالوجود والعدم ، والحركة والسكون ) كما يقول اهل علم الكلام ،فارتفاعُ أحدهما سيكون على حساب الآخر وربما تلاشيه ، ولسنا بصدد الحديث عن نظيرين ( متناظرين متشابهين متساويين في الأهمية أوالدرجة أو الرتبة ) ، بينما الفرق معروف بين الرجل والمرأة ومُسَلَمٌ به.
بكل بساطة نحن نسهب في الحديث عن إنسجام نفسي تتوالد منه رغبة مشتركة بتجاوز الأخطاء ،وتطوير القدرات الذاتية ، وتحسين التصورات الذهنية ، والوصول – بالنتيجة- الى أمن داخلي ، يجعل كل طرف قادر على تحقيق نجاحات كبيرة في حياته الخاصة البعيدة كل البعد عن مضامين حياة الطرف الآخر في هذه العلاقة .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]