22 ديسمبر، 2024 7:25 م

من وحي شهريار وشهرزاد (57)

من وحي شهريار وشهرزاد (57)

صديق الغربة
شهرزاد : آخر ماوصلنا اليه ،قولك ” إن رحيل صديق أصابت قلبه أمراض الغرور والكِبْر ، خيرٌ ألف مرة من أن نتلقى منه صدمات يومية مفزعة تحت مظلة الصديق الصدوق ” ،والله إنه حديث ذو شجون ، لكنني أجد في الغربة قساوة تصيب القلوب وكأن فكرة ( هو في وادٍ وانا في واد ) تلازم صدور المغتربين ، وتعُجّل بإنهاء علاقات متينة كهذه ، وربما تمتد الى أعمق مشاعرنا فتنسينا كل من نحب!.

شهريار : ستأخذيننا بعيدا ياشهرزاد لو أوغلنا بالحديث عن آثار الغربة ، لكنني سأختصر هنا بالكلام عن أثر الغربة على الصداقة ، حتى لا تتهمينني بالتهرب من الإجابة .

والغربة سيف ذو حدين ، فهي إمّا أن تزيد من تعلقنا بأصدقائنا وأحبّائنا ،أو أن توغل في قطع حبل الوصال ، ولا شك بأن عوامل كثيرة في بناء شخصية الفرد تؤثر سلبا او إيجابا بهذه المعادلة المعقدة ، وبرغم كل المؤثرات فأن أحدنا ليشعر بحاجة ماسة الى بناء علاقات وطيدة في الغربة ، كأنها وطن بديل يشعره بالأمان المفقود ، وبالعزوة المتلاشية ، والتكاتف الغائب ، وأستطيع القول : إن الصداقات التي ترتبط بمعاني الغربة أعمق – في كثير من الأحيان- من صداقات الوطن والإستقرار، فنحن نتهادى بإرتياح كبير الى إحساس الصداقة بإنسجام نفسي عندما نكون في حالة من الإستقرار المسبق ، وقد يكون ذلك سببا وجيها لحسن الإختيار ، والاضطراب النفسي يدفع بإتجاه قرارات إنفعالية تؤثر سلبا على حسن إختيارنا،كما أسلفنا ونحن نتحدث عن الصداقة في أدوار المراهقة وسنوات الأولى من الشباب ، ولا أدعي هنا أن الإحساس بالأمان والإستقرار يقلل من حاجتنا الى صديق نودع عنده خزين أسرارنا وهمومنا وأحلامنا ، وقد سلّمنا بذلك آنفا ، لكن الحاجة الى الصديق في الغربة تخالطها مشاعر الإحساس بالوحدة والوجد ، وتخيلي معي ياشهرزاد معاني (صديق الغربة ) حينما نرى في إبتسامته خارطة الوطن ، ونحتضن أحلام العودة بينما نعانقه في لحظة شوق أو فرح .

ولا أخفي سرا إن قلت : إنني كنت رافضا لفكرة إتخاذ صديق في العقد الرابع من عمري مهما كانت الأسباب ،فالصداقة الحقة عقد كاثوليكي لا انفصال فيه حتى الرمق الأخير ، ومادمنا نتحدث عن عقد أبدي فقد نكون أقرب الى الصواب عندما نمثل صداقة العقد الرابع برجل خاض تجارب مرة ،وأخفق في علاقة حب وتعرض للخيانة مرات ومرات ، ثم قرر أن يتزوج، لكنه يجد صعوبة متناهية في اختيار شريكته ، فالصدمات والآهات ، والإخفاقات ، وتعدد الخيانات ، كلها حواجز منيعة ، وقوالب فكرية رصينة تبني أمامه جدارا عاليا من المواصفات التي يحددها للإرتباط ، وبشق الأنفس قد يحصل على فتاة الإحلام (الخرافية) التي يبحث عنها ونادرا ما يفلح في ذلك .

وعلى وقع تلك الصدمات في العقدين الثاني والثالث ، وكلمات أرسطو التي تحوم من حولي أينما اتجهت : ( منْ كَثُرَ أصدقاؤه فلا صديق له ) ، فإن الحصول على صديق صدوق كان كالحصول على زوجة بمعايير مَلَكيّة في العقد الرابع من العمر، لكنها الغربة ياشهرزاد ، تجعل المحال ممكنا ، والقلب القاسي ليّنا .. في أحضانها تضيع جميع مقاييس الإستقرار ، وتتبدل الأحلام عندما تتقاذفنا الوحشة والأقدار ، فبعيدا عن كل من نحب ، نجد حاجة ملحة الى صديق الغربة ليكون الوطن والكنف والأهل والأحباب .

هنا في مصر الكنانة لم أبحث طويلا ، بل إنني لم أجد وقتا لأفكّر وأذكّر نفسي بقراراتي ( الحاسمة ) والمتهاوية تحت وطاة الغربة .

شهرزاد : عذرا على المقاطعة ، لكنني أسجل تحفظي الكبير على قولك : “تحت وطاة الغربة في مصر الكنانة” .. ألم تخبرني مرارا بأنك طالما حلمت بزيارتها والسكن فيها ؟ ، فكيف تكون حُلُما ثم تمسي غربة ؟! .

شهريار : الحق ما جاء على لسانكِ ، فإنني والله ما أحسست يوما بغربة الروح بل أنني تخلصتُ من ذلك الإحساس القاتل بين ربوعها ، عجيبة هي قلوب المصريين كأن أحدها واحة غنّاء تَسعُ من الأحباب والأصحاب وحتى الغرباء ألفا ، ولأعرف سرا لهذه الصفة المميزة غير الطيبة التي تتجلى بتقبل الرأي الآخر ، والقدرة على إستيعاب الأفكار المخالفة ، وكما أسلفنا، فإن أعظم معايير الثقافة أن تستقبل صدورنا الرأي المخالف لإعتقاداتنا من غير أن نشعر بالضغينة او الحرج .

لا أتكلم هنا عن المثقفين المصريين حصرا ، بل أعني أيضا الفلاح البسيط ، وسوّاق النقل الخاص والعام ، وبائعة الخضار الكادحة على قوت عيالها ، وطلاب الجامعة ، والاساتذة والعلماء والأدباء ، إنها ثقافة ربانية قد حبا الله بها مصر وأهلها ليقارعوا الصدمات ، ويحافظوا على تكاتفهم ووحدتهم برغم كل الصعاب عبر تاريخ طويل يمتد لأكثر من 5 آلاف سنة .

وأذكر أننا تحدثنا عن أهم الأسباب التي مكّنتْ الفتنَ من بلاد وادي الرافدين ، فتقبل الرأي الآخر -في أيامنا هذه – غاية في الصعوبة ، وأني لأرجو الله أن يجعل رسالة المحبة التي أكتب سطورها معك ياشهرزاد بلسما لتلك العلّة المستشرية في بلدي ، فإن الأرض التي تمتد حضارتها لأكثر من 4800 عام ليست بعاجزة عن مد جسور المحبة من جديد ، وتقدير ذوات الناس على إختلاف مشاربهم ومعتقداتهم وثقافاتهم ، والتعامل بروح المواطنة والأخوة العراقية بعيدا عن كل المسميات الأخرى .

أنتم المصريون ياشهرزاد إنموذج يقتدى بالتكاتف والمحبة والألفة ، وأمّا غربتي هنا فهي افتقادي لكل أحبابي وأصحابي وجيراني في وطني ، إنني لأشتاق الى مياه دجلة والفرات كشوقي لأولادي ، فأرتشف من النيل رشفة تمنحني أملا كبيرا بتجدد اللقاء ، وأحن الى النخلة في بيتنا ،فأشم رائحتها بين أشجار (المانجاو ) المصرية ،ويشتد وجدي لتوأم روحي ، فأراها نجمة متلألئة فوق بحر الإسكندرية ،ويأخذني الحنين الى أحضان أمي ،فألتمس دفأها في ليالي القاهرة الحالمة .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]