18 ديسمبر، 2024 6:17 م

من وحي شهريار وشهرزاد (53)

من وحي شهريار وشهرزاد (53)

قدسية الصداقة (2)
وصلنا في حوارنا السابق الى إننا نخبئ حتى عمّن نحبهم بعض نقاط ضعفنا خشية أن نفقدهم ، لكننا نبوح بكل أسرارنا لمن نتخذه صديقا وكأننا نستودعها في بئر عميقة لا يُرى قرارها أبدا .

وأنصح كل أب وأم أحتارا بشأن من شؤون أحد أولادهما ،او مدير متعجب من أمر موظف عزيز عليه ، ان يسألوا عنه صديقه المفضل.

ولعلّ بإمكاننا القول : الصديق هو الوحيد القادر على الأجابة عن أي سؤال محيّر يرفع العَجَبَ ، ويدفع الشبهة من غير أنْ يكشف أسرار صاحبه .

إنه بإختصار : حافظ الأسرار ، وحارس الأغوار ، والداعم لنا في كل إنتصار ، والعارف بما يجول في خواطرنا بالليل والنهار .

حينما نكون كتابا مفتوحا بين يديّ الصديق فإننا نأخذ منه عهدا غير منطوق ،ولا مكتوب، بان يكون سحابة بيضاء تظللنا أينما سرنا ، وتسعفنا بقطرات تروي ظمأنا قبل أن نبحث عن شربة ماء .

إنه يعرف تماما أننا نتألم بمجرد النظر إلينا ، ويسابقنا الى الإبتسامة قبل أن ننطق بالخبر المفرح ، ذلك إننا ننظر في مرآتنا حينما نكون في حضرة الصديق .

ولعلّ شكسبير قد نطق ضمنا بهذه المعاني العميقة لصفاة الصديق حينما قال :”الصديق الحقيقي هو الذي يشعر بألمك عندما تخفيه “.

إنها علاقة طاهرة لا مصلحة فيها سوى أن كل طرف يجد طعم الإنتصار الشخصي حينما يرى النجاح في عيني الطرف الآخر ، وكله ثقة بأن صديقه سيأخذ بيده على سلم النجاح .

ذلك النجاح أحلام مشتركة تتحق ،أو تخيب ، في مرحلة معينة من حياتنا ، وفيها تكون الصداقة في أوجها .. إنسجام نفسي ، وأسرار متبادلة مدفونة في أعماق سحيقة ، ومرآة تلوم صاحبها على كل فعل قد يسئ إليه ، وتقارب ذهني منقطع النظير .

والأهداف المشتركة ،والثقة المتبادلة ، والتفاهم على كل صغيرة وكبيرة بنظرات، أو بمجرد إيماءات من غير الحاجة الى كلام كثير أحوال تجسد أبهى صور الصداقة ، وتدلل بنحو لا لَبْسَ فيه على أن الإنسجام النفسي ،وقدسية العلاقة قد بلغا أعلى المراتب ، ولأن الأحلام ” لغة عالمية مشتركة يعرفها حتى الأنسان البدائي” كما يقول إيريش فروم ، والأمر يزداد تطابقا وإنسجاما في ظل صداقة صدوقة ، حينها تكون قمة السعادة للطرفين بالسعي نحو تحقيق الهدف المشترك ، بتكاتف لا يُجارى حتى عند أكثر العائلات تماسكا ومحبة، فإذا تحقق الهدف ،وذاق الصديقان طعم الإنتصار معاً قد نصل الى نهاية الطريق .

ولست قاصدا هنا لمعنى السعادة المتناقصة كما يسميها علماء النفس ، وهم يؤكدون ،أن ” السعادة تنحصر في الطريق نحو تحقيق الهدف ،وتتلاشى شيئا فشيئا بعد بلوغه”.

يقول علي الوردي : (من طبيعة الإنسان أنه عندما يصل الى الهدف الذي كان يطمح إليه وتمر عليه في ذلك فترة من الزمن ، يصبح الهدف إعتياديا مألوفا في نظره ، وهو قد يسأم منه بعدئذ ، ويأخذ في السعي نحو هدف آخر ) .

أن تلك السعادة ياشهرزاد كانت مبنية على سعي طرف واحد للوصول الى هدف واحد وهنا قد يتحقق معنى (السعادة المتناقصة) ، وإنْ كنت متحفظا على إطلاقها ، وسنأتي على ذكر الأسباب في وقت لاحق ، لكننا هنا نتحدث عن هدف مشترك ، كان السعي إليه أحلاما متناغمة ، والإنتصار المتحقق ببلوغه كان نتاج إنسجام ودعم متبادل وتقارب في الرؤى قبل الأحلام ، وقد تتناقص ذروة السعادة عند بلوغ الهدف المشترك ، لكن ماتحقق على الطريق من تلاحم وتكاتف وإعتماد متبادل أعظم من ان يتأثر بسعادة متناقصة.

الخطر الذي أتحدث عنه أعظم من ذلك ، وتخيلي معي ياشهرزاد أن ذلك الهدف المشترك بين الصديقين الصدوقين على ربوة عالية ـ وقد بذلا جهدا جهيدا في الوصول إليه ، فلما بلغا القمة وتعانقا فرحا بالإنتصار ، وبينما أنفاسهما مازالت تلهث ، نظر كل واحد منهما الى جهة مختلفة ، فرأى الأول مساحات خضراء أراد أن يواصل مشواره نحوها ، بينما أمعن الآخر النظر في المروج ، فوجد فيما بينها ألغاما فتاكة ، وسرعان ما طلب الأول من صديقه الصدوق أن يكملا المشوار ، لكنه تفاجأ برفض قاطع منه ، وهو يحذره من الخطر المحدق بهما ، لكن الأول لا يرى سوى الخضراء والأمل ، وهنا وصلا الى مفترق الطريق ، الأول سار بعيدا نحو جنته المنشودة ، والثاني عزم على أن يسلك طريقا ثالثا بعيدا عن الخطر والأمل الذي لايراه إلا صاحبه .

الآن ياشهرزاد سنعود الى نقطة البداية .. هل ترين فيما ذكرناه خذلانا وخيانة ؟!

كانا يدا بيد وحققا الهدف المنشود معا، لكن تلك الخطوات الجسام التي قطعاها جنبا الى جنب قد طبعت في عقليهما قناعات متفاوتة ، وكل متأثر بحتمياته الوراثية والتربوية وحتى البيئية ،كانا صادقين متكاتفين لكنهما بلغا الهدف بعبرٍ ودروس مختلفة ، ومن ذلك المكان المرتفع نظرا الى وجهتين مختلفتين من الحقيقة فتفارقا بمحبة مُقتَنعين بفلسفة حياتية عميقة مفادها : “كما أن الحياة مراحل ، فالصداقة مراحل .. لا ضغينة ولا خذلان “.

شهرزاد : يا الله! .. تجبرني في كل مرة على طرح السؤال بطريقة مختلفة ، حسنا ياشهريار دعني أقول لك : ليس شرطا أن يكون إختلاف وجهات النظر ، وتغيّر التصورات ، وتباين الأهداف والأحلام سببا طبيعيا لانتهاء صداقات وثيقة إستمرت لعقد او عقدين من الزمن ، ألا ترى ذلك ؟ .

شهريار : نعم الآن ستختلف الإجابة لكن دعيني اجيبك في المرة المقبلة

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]