17 نوفمبر، 2024 4:18 م
Search
Close this search box.

من وحي شهريار وشهرزاد (42)

من وحي شهريار وشهرزاد (42)

جنّة الرضا
شهرزاد : تحدثنا في المرة السابقة عن (ذي القلب الكبير) ، ولو كنتُ مكانه مافعلتُ مثله ، لكني أجد الحال مختلفا لو أنعكس الموقف وصار الولد أو البنت في موقف المُلام ، وأذكر أنك قلت فيما سبق ، إن ” الرضا غاية لا تدرك عند عامة الناس أو الخواص ، إلا الوالدين فإن رضاهما رسالة رضاً من الله تعالى، أو حبيب نذر عمره فداءً لمن يحب” .

شهريار : حقا ياشهرزاد إن رضا الوالدين غاية تدرك والسر في ذلك إنهما لا ينتظران من عطائهما إلا النجاح في أداء الأمانة ، ووصول فلذات كبديهما الى بر الأمان ، و من الطبيعي أن يشعر الوالدان بزعل شديد إنْ وجدا أحد صفحات الرسالة خالية الوفاض لم تُكتَب سطورها المضيئة بعد ، وأنهما ليجتهدان بالنصح وبذل كل جهد لتقويم ما اعوج من أغصان شجرة العائلة وقد لا يفلحان ، ذلك أنَ الغصن الذي يريانه معوجا قد يكون مائلا نحو طريق آخر غير الذي يحلمان به ، والأبن او البنت اللذان سلكاه يجدان فيه النجاح ، أو أن يكون الزعل الذي يصل حد الغضب والمقاطعة بسبب جفاء وغلظة وسلوك غير محمود من ولد سَهِرا عليه طويلا حتى بلغ أشده ، أو بنت تزوجت من رجل لم ينل رضا الوالد او الوالدة وغيرها من المواقف الكثير مما يجعل رضا الوالدين في غاية الصعوبة ، لكن ذلك الرضا بنهاية المطاف غاية تدرك في غالب الأحيان .

لم أكن – شأني شان الغالبية العظمى من الناس – ميسور الحال إبان الحصار الذي فرض على العراق في تسعينيات القرن الماضي ، ولقد إجتهدت كثيرا من أجل تحسين دخل عائلتي ، وكنت مقصرا مع أمي كثيرا على مدى عقد من الزمان.. فلما صار في الأمر سعة إجتهدت في إرضائها ،وعجبا إنني كنت أسمع منها كلمات الرضا ولا ألمسه في تعابير وجهها، وهي تصدني كلما وضعت في يدها حفنة من المال وقبلت جبينها ، كانت تردد دائما :(لا أحتاج الى المال يكفيني ما أحصل عليه من بناتي ومن أبيك ) .

قررت أن أوجه اهتمامي باتجاه آخر ،وكانت زوجتي تعينني كثيرا وترافقنا الى الطبيب الذي نزوره ،أحيانا ، فقط في محاولة مني لنيل رضا أمي ، أو سوق يحلو لها أن تشتري منه شيئا ، وأنا على هذا الحال سنوات من غير أن ألمس منها رضا نابعا من أعماقها .

آلمني هذا الحال كثيرا ، وقد أطلت السجود لربي ،في أحد الأيام ، وسالته أن يجعل لي أشارة رضاه عني في رضا أمي ، ولم تمر ألا سويعة مابين الدعوة والإستجابة .. عدت الى المنزل وجلست على أريكة قديمة في الحديقة أهاتف صديقا لي حينما خرجت أمي كعادتها تسقي وتراقب شجيراتها وأزهارها ، و أشهد الله على ماحصل ، إقتربت مني فجأة ،وطبعت قبلة على جبيني من غير أن تقول كلمة واحدة ، ثم ابتعدت عني لأمتار ،لم يبق فيَّ جلدي مسامة إلا واقشعرت ، لم أكن أصدق ماحصل ، أغلقت الهاتف بسرعة وتوجهت نحوها ، وسألتها : ماسر هذه القبلة يا أمي ؟

– تستحقها فأنا راضية عنك جدا .

يا الله .. لم أكد اصدق أن الإستجابة الإلهية تاتي بهذه السرعة..من يومها وأنا أتفنن إرضائها أكثر فأكثر ، اليوم هي تقول بغيابي وحضوري : ان الله أكرمها بي لأني سعيت جاهدا على مدى أكثر من عام لأكمال المعاملة، وحصولها على الراتب التقاعدي بعد رحيل أبي .

إنها رحمة إلهية عظيمة ياشهرزاد أن يجعل الله لأحدنا سببا مستمرا في إرضاء أحد والديه أول كلاهما .

لم تكن أمي بحاجة الى المال ،أو الذهاب الى الطبيب ،أو التسوق لكنها كانت سعيدة باهتمامي ،وبأن تراني ناجحا في عملي ، وهي في كل مرة ترفض فيها أخذ المال مني إنما ترغب بأن أنفقه على أسرتي لترى السعادة في وجوه أطفالي .. إنها العطاء الدائم يا شهرزاد ، فكيف لا يكون إرضاؤها ممكنا ؟ !.

كل ما نحتاج إليه أن نظهر للوالدين احتراما وعرفانا دائمين لننال الرضا ،ونقترب من الجنة ، ولذلك يقول الهادي البشر (ص) : ( رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ) .

نحن نرى الجنة ياشهرزاد في كل يوم ، ومن أدركها ببصيرته وجدها في ابتسامة رضا من والده ،أو دعاءٍ من قلب امٍه المفعم بمحبته.

واني لأعجب حقا ممن تزوج وعانى من تربية أولاده ، ولم يعرفْ قيمة والديه وإنْ أخطآ في حقه غير عامدين الى أذاه ، وإنْ بدت القساوة في سلوكياتهما نحوه.

نحن نبرر قساوتنا مع أولادنا ، في بعض الاحيان، بخوفنا على مصالحهم ، ونقرُ أحيانا باخطائنا ، فكيف نتجاهل هذا المعنى ونحن نكابر ولا نسعى لإرضاء آبائنا وأمهاتنا قبل فوات الآوان ؟ .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]

صفحة 1 من إجمالي 1

أحدث المقالات