18 ديسمبر، 2024 8:57 م

من وحي شهريار وشهرزاد (40) السادية الحميدة

من وحي شهريار وشهرزاد (40) السادية الحميدة

شهرزاد : الصورة المثالية للوالدين التي تحدثت عنها في المرة السابقة قد تتكسر على صخرة قساوة عانى منها الكثيرون ،فهم لم يجدوا من والديهم إلا تسلطا قد يصل حد السادية الباردة ، فيكبر أحدهم وهو مهزوز الشخصية عديم الأرادة ، قليل العطاء ، ساخطٌ على والديه ، فكيف له أن يقتنع بهذه المعاني والصفات ؟ !.

– رفقا بالوالدين ياشهرزاد ،فغالبية العارفين بالنفوس وعللها ،والسلوكيات وأسبابها أكثر رقة منك في وصف تلك السيطرة التي يفرضها معظم الآباء والأمهات ، ولنذكر هنا وصف إيريتش فروم ، فهو يصف تلك السيطرة بالسادية الحميدة ، فهم يمنعون أبناءهم من أخطاء جسيمة في المراحل العمرية الأولى تحفظ لهم كيانهم المتعطش لأي تجربة من غير أن يقدّروا العواقب ، فكل الآباء والأمهات الصالحين يوجهون أبناءهم بـ(إفعلْ أو لا تفعلْ) ، كيف لنا ياشهرزاد أن نصف تحذيرا سريعا لطفل في الثانية أو الثالثة من عمره بعدم الإقتراب من المدفأة، أو نقطة توصيل التيار الكهربائي بأنه سادية باردة ؟، أم هل لنا أن نصف أوامر أداء واجبات المدرسة في المرحلة الإبتدائية مع التشجيع والترغيب بهذا الوصف؟ ، فان جاءت الأوامر أكثر صرامة لمنع الأبناء المراهقين من التدخين ،أو تعاطي المخدرات ،أو مصاحبة صديق سيء ، فلن يبلغ بنا المقام ذلك الوصف أيضا ، ونستطيع القول :إن الأباء والأمهات في أيامنا هذه صاروا على دراية بان التوجيه المباشر من غير مبررات وأسباب مقنعة ،أو باستخدام الفاظ حادة لن يعد مجديا ، فالطفل يرى عبر أفلام الصور المتحركة آباءً وأمهاتٍ يقبّلون أبناءهم وهم يشجعونهم على الفعل الصحيح ، والمراهقون يتابعون عبر أجهزتهم الجوالة أساليب التربية الحديثة ، ويطلعون على عالم مختلف تماما – بكل ايجابياته وسلبياته- عن عالمنا في القرن الحادي والعشرين .

شهرزاد : قد يكون وصفي حادا لكنني أصطدم بأناس ظاهرهم في غاية الثقافة لكنهم يعاملون أبناءهم من دافع السيطرة المطلقة حتى بعد أن يبلغوا سن الرشد .

– هذه المظاهر السلبية تعيدنا الى الحتميات الثلاثة ، وأحمق من بلغ الأربعين من عمره ولم يتخلص من عصا جده التي وصلت اليه عبر الحمض النووي ،أو سوط أبيه الذي مازال يرن في أذنيه ، أو ساحة الإستعراض العسكري التي مازال يشهد موقفها المَهيب في كل يوم بحكم وظيفته العسكرية .

على الآباء والأمهات أن يتعلموا ،أن الحتمية الوراثية ( الجينات الوراثية) ، والحتمية النفسية ( صنيعة أبائنا) والحتمية البيئية ( أثر البيئة التي نعيش فيها على سلوكياتنا) ، مراحل منتهية في حياتهم حينما يبلغون سن العقل الراجح ( العقد الرابع) وهينئا لمن محى تلك الحتميات من عقله حينما يكون بين أفراد أسرته قبل أن يبلغ هذ العقد .

إن احترام النفس وتقديرها ،وإمعان العقل الذي صار يُميّز الخطأ من الصواب كفيلان بالتخلص من تلك الحتميات ،فان وجدتِ أباً – تعدى العقد الثالث- يشعر بالفخر وهو ينهال على ابنه الراشد بالضرب ، أو أمّاً تشعر بالرضا وهي تقسو على ابنتها المراهقة بكلمات جارحات ،فاعلمي ياشهرزاد أنك تواجهين ساديَين متسلطين يعيشون تحت وطأة المازوخية ( الرضوخ ) لأحدى الحتميات الثلاث وربما جميعها ، وأولادهم أقرب أداوت إحساسهم بسعادة التسلط الواهية لا محالة .

شهرزاد : حسنا سنسلم بأن الآباء والأمهات المتسلطين هم القلة القليلة ، وأن الغالبية العظمى هم الرحماء الذين يؤدون رسالاتهم كأمانة سماوية ، وهذا يعيدني الى قولك : “لأجد برا أعظم من القول : أسامحكِ أمي ..أغفرُ لك أبي” ، سؤالي هنا :كيف تكون هذه المسامحة او تلك المغفرة أعظم صور البر بالوالدين .

شهريار : أحمدُ الله انكِ عدتِ بنا الى هذا الكلام فهو اعظم مقام ، وأذّكِرُكِ هنا بقولنا ، أن ” مسامحة النفس عن أخطاء الماضي أعظم وسيلة لمحبتها وتقديرها ” ، فكيف يكون الحال ياشهرزاد ونحن نتحدث عن المغفرة والمسامحة للوالدين؟ ، حينها ستتدفق المحبة والرضا أنهارا من العطاء ، ونحن نحاول أن نرد جزءا يسيرا من تضحياتهما إذا انقلب الحال ، وصرنا نحن الأقوياء الأشداء ،وهما الضعيفان الواهنان ، أحدنا لا يحتاج في عصر التكنولوجيا أن يحمل أمه على ظهره كما كانت تحمله على صدرها لتذهب به الى طبيب ، لكننا نستطيع أن نخفف عنها أحمال الزمان بابتسامة دائمة ، ونظرة حالمة ، وكلمة طيبة ما احياها الله ، وليس صعبا أن يكون أحدنا سندا لوالده الكهل في سنواته الأخيرة كما كان سنداً له عقودا من الزمن ، نميل حيث يميل كأننا ظله من غير أن نشعره بعجزه كما كان يفعل معنا في طفولتنا وصبانا .

تلك المحبة المتدفقة من المسامحة والمغفرة مدعاة لتحقيق قوله تعالى “وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ” .

وهنا لك ان تتخيلي حقهما علينا فاذا كنّا منهيين عن ( التأفف) فمن باب أولى أن لا نتلفظ بأي كلمة جارحة ، أو برَدٍ عنيف ،أو نبادر بتصرف أحمق .

كنّا فيما مضى ونحن صغار نعيب عليهما أوامر وسلوكيات تجبرنا على فعلٍ يَصبُ في مصلحتنا ،غالبا ، وإنْ بدت قاسية ، فما لنا اليوم ونحن نمتلك العقول لا نطيق منهما كلمة ،أو فعلا ندرك تمام أنه نابع من محبة وعطاء دائمين؟!.
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة