18 ديسمبر، 2024 6:52 م

من وحي شهريار وشهرزاد (38)

من وحي شهريار وشهرزاد (38)

الخيمة الحانية والعطاء الدائم

شهرزاد : تكررُ كثيرا عبارة الخيمة الحانية والعطاء الدائم ، هل من توضيح ؟

– حينما نتحدث عن (الأب ) تتبادر الى أذهاننا صورة خيمة حانية أوتادها مغروسة في عمق الصحراء ، ظلها وفير ، تقارع العواصف ، وتحجب أشعة الشمس اللاهبة ، يعيش في فضائها الواسع أناس طيبون منشغلون بإمور حياتهم ،وهم يشعرون بأمان منقطع النظير ، هم لا يفكرون بالدفء من أين جاء ، ولا بالنسمات الباردة كيف وصلت الى أجسادهم وداعبت قلوبهم ،وانعشت آمالهم ، إنْ التفتوا يمينا وجدوا قوت يومهم مؤمنا وطريق مستقبلهم معبدا ، وإنْ التفتوا يسارا إطمأنت قلوبهم بالحارس الشجاع الذي يقف عند رأس الخيمة ، ينامون الليل وهم برعاية دعواته ، ويعشيون النهار بدعمه وإرشاداته ، وهم على هذا الحال ما تعاقب الليل والنهار ، حتى إنْ تفتحت لهم طرق حياة جديدة ، وعاشوا في فضاءات بعيدة ، فهم ينعمون بظلال تلك الخيمة الذي يرافقهم أينما حلوا أو إرتحلوا .

تلك الخيمة الحانية هدفها واحد :أن ينعم ساكنوها بالأمان والسعادة والعافية، ويحققوا إنتصاراتهم الشخصية ، فهي خيمة الحياة ، بل هي الدنيا وما فيها .

يقول الهادي البشير (ص) : (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) .

تلك الخيمة ( الدنيا) تقارع عقودا من الزمن حتى يبلغ سكانها مأمنهم، وكل ذلك على حساب قوتها، وتماسك نسيجها ، ومتانة أوتادها ، وصلابة أعمدتها ، حتى اذا أصابها الكبر ،وخارت قواها ،وتهرأت حبالها ،وتدفقت أشعة الشمس اللاهبة عبر أوبارها المتهالكة ،رفع سكانها رأسهم للمرة الاولى الى السماء ليتحسروا على تلك العقود الحانيات ، فان حلَّ القدر وتطايرت الخيمة انكشفت الرؤوس، وضاقت النفوس وهي تبحث عن مأمن جديد من غير أن تنال معشار ماكانت عليه تحت ظلال الخيمة الحانية .

ولو تحدثنا عن العطاء الدائم ( الأم) فيمكننا القول بدون تردد: إنها ينبوع حياة لا ينضب ولا يتوقف عن العطاء ، هي المنبع والمنبت والماء العذب ، يسقي النبتة الصغيرة ، ويروي الشجيرة اليافعة ، ويكفي الشجرة اليانعة ، تلك العين الأبدية تسقي أجيالا من الأبناء والأحفاد ،وربما أولاد الأحفاد ، ولا تتنظر مقابلا ، فسعادتها في استمرار عطائها ليس إلا ، تكاد تتمزق إربا في كل مرة تلد فيها ، وهي – كماأاسلفنا – تخالف المنطق حينما تشعر بالسعادة والمحبة في أقسى لحظات الألم ، بل إنها تخالف قواعد الجاذبية ، فغيرها من ينابيع الماء تصب من مكان مرتفع لتصل مياهها الى الأرض الجرداء من غير أن تحمل أوزارها ،أو تقاسي من أملاحها ، او تعاني من تشققاتها ، أمّا الام ..تلك المرأة التي لا تتوقف عن صفة الحَمْل ، وكأنها تدفع بعطائها من الأسفل الى الأعلى .. فهي تحمل أولادها في بطنها حتى يُولَدون ، ثم تحملهم على صدرها حتى يكبرون ، ثم تحمل همومهم حتى يبلغون ، ثم تحمل معهم أحلامهم حتى ينجحون ، ثم تحمل أولادهم ثم أبناء أولادهم حين يتزوجون وينجبون ، وهي في كل الأحوال في قمة العطاء والسعادة برغم الآلام والمخاوف والمكدرات .

والعجبُ في تلك المخلوقة التي لا مثيل لها في حياة كل واحد منّا ، أنها تزداد عطاءً كلما تقدم بها العمرُ ، فإن اصابها الكِبَرُ تدفقَ عطاؤها دعاءً لا يتوقف ، وسخاءً لاينضب حتى الرمق الأخير .. فأن حان وقت الرحيل كان آخر عطائها الملموس دمعات تذرفها على إبن بعيد، او ابنة مريضة، أو حفيد صغير تشتاق الى أن تكحل عيناها برؤيته قبل انتقالها الى الرفيق الأعلى ، حينها يتوقف النبع الصافي ،وتجف سواقيه ، ولو أن أحدنا سُقي من أعذب ينابيع الأرض لُحَنَّ الى الأعذب .. الى ابتسامة أمه .. حنينها .. عطائها .. دعائها ..بركة رضاها التي تجعل حياة أحدنا طيبة مباركة حتى بعد رحيلها .. فهي العطاء الدائم بلا منازع .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]