23 ديسمبر، 2024 12:59 ص

من وحي شهريار وشهرزاد (38)

من وحي شهريار وشهرزاد (38)

شهرزاد : ألا ترى أن بعض الأباء والأمهات لا يحملون الصفات العظيمة التي تحدثتَ عنها في المرة السابقة ؟ ، وأنهم لا يفكرون إلا بنجاحهم هم حتى يقال إنهم أحسنوا في تربية أولادهم ، ولو كان ذلك على حساب أبنائهم ؟ .

– لكل قاعدة شواذ كما يُقال، ولا يختلف اثنان على أن الأصل في الوالدين خيمة حانية وعطاء دائم ، إنها وديعة أودعها الله في قلبيهما ، فهما بدون تفكير مسبق يتكاتفان لتكوين الأسرة ، إنهما لا يحتاجان ابتداءً الى خطة خمسينية أو ستينية لبناء صرح قد يمتد لقرون عبر أجيال متلاحقة ، لكنهما بطبيعة الحال يبدآن بالتخطيط مع بشارة المولود الأول ، في تلك اللحظات يتدفق إساس المسؤولية الربانية كشبكة عنكبوتية تحفز كل المشاعر والأفكار عبر كلمة واحدة : ستكون أبا عمّا قريب .. ستكونين أُمّا خلال تسعة أشهر .

وقد يبدو الأمر غرائزيا كما يقول فرويد ، لكنه عند البشر أعمق من ذلك بكثير ، فالحيوانات لا تمتلك القدرة على التخيل والإبداع والتخطيط لذلك تقودها غريزتها لحماية أطفالها ، وأفضل ما يقدمه الحيوان لأبنائه أن يعلمهم كيف يحمون أنفسهم من أخطار الغابة والصحراء،أو الاصطياد ،أو اقتناء مغارة يختبئون فيها ، أو غصن شجرة يعيشون عليه ، وأجد الغريزة عند بني البشر حافزا مبدئيا للأبوة والأمومة ، نحن بحاجة الى ذلك الحافز لتستمر الحياة ، لكننا لا نكتفي بالمسكن والملبس والمأكل ، ويكفي عقل الأنسان شرفا أنه يستنهض محبة الله وعباده في قلوب الأجيال المتلاحقة ، وأن يعلمهم القيم العليا والخلق القويم .

وعلى هذا الأساس قد تتفقين معي ياشهرزاد على أن القاعدة هي ( الوالد ..الخيمة الحانية ، والأم ..العطاء الدائم ) ، وأن الحروب والمصائب التي تحل بالمجتمعات الفقيرة ، أو النامية ، أو حتى التي توصف بالمتطورة حينما تقع تحت طائلة المخدرات ،والأمراض الفتاكة ،والكوارث الطبيعة من أعظم الأسباب التي تؤدي الى ضياع هذه المعاني السامية ، وتُخلِفُ أجيالا متهالكة تشكو ظلم الوالدين قبل قساوة المجتمع والظروف ، ولا أريد هنا أن ألتمس العذر للمتنصلين عن الأمانة الربانية ،وأداء رسالة الحياة ، لكنني أدرك تماما أن الشر الذي يعم في مجتمع ما يُهلك المبادئ قبل أن يهلك الأجساد ،ويزهق الأرواح .

شهرزاد : لنفرض أننا نعيش في مجتمع متماسك آمن ، هل ترى جميع الآباء والأمهات يحملون الرسالة ،ويؤدون الأمانة ؟.

شهريار : العلّة ليست في تحمل المسؤولية قدر تعلقها بفهم رسالة الحياة ، فكلما اتسع الأدراك اتسع فضاء الخيمة الحانية ، وزاد العطاء سخاءً ، وهنيئا لمن حظي بأبوين متعلمين مدركين لمعاني الأسرة ، إنهما يعلمان علم اليقين أن الدعم والعطاء لايتوقف عند توفير ضروريات الحياة ، بل إنه يجعل من تلك الضروريات مجرد طاقة وحماية للأبدان ، إنهما يحرصان على طاقات أخرى أكثر أهمية من الطعام والمسكن ، تلك الطاقات الروحية التي تغذي الذوات بالخير وتسقي القلوب أرادة وثقة ، ولا يُتَخَيَل الإنسانُ السوي من غير تلك الطاقات، حينها نقترب من الصفات الحيوانية بجدارة ،ونمحق العقل البشري .

شهرزاد : حتى هذه المواصفات قد تجتمع بالوالدين من غير أن يكون هدفهما أداء رسالة صادقة ، كأنهما يبحثان عن إنتصارات شخصية ، لا تنسى ما تكرره دائما نقلا عن وليم جيمس : (إن أعمق مبدأ في الطبيعة البشرية هو التماس الثناء)!.

– كأنك تميلين الى القول الدارج بأن التماس الثناء هو السر وراء التضحيات الجسام للآباء والأمهات والمعلمين النجباء ، والمهندسين المبدعين والعباقرة من المفكرين والمكتشفين ؟.

وحتى لا نُتهم بإزدواجية الطرح دعينا نسترجع ماذكرناه سابقا حين قلنا : “إن الثناء هو غاية الإحساس بالأهمية ، وإنه لمدعاة للفخر بما ينجزه الإنسان من أعمال صغيرة كانت أو كبيرة ، وإن أحدنا ليلتمس الثناء التماسا بعبارات رقيقة أو شديدة تُذكر من حوله بنجاحاته التي لم يُكافأ عليها ، ذلك الثناء الذي يدفع المعلمين المخلصين الى تخريج أجيال وأجيال على مدى عقود طوال ، لينالوا البركات والتهاني ببلوغ طلابهم أعلى الدرجات ، وإنهم ليتفاخرون بطبيب تخرج من صفوفهم قبل 20 عاما أو مهندس بارع تعلم على أيديهم في أيام شبابهم ، وهو الذي ألهم الشعراء والفلاسفة والمفكرين والمبدعين ليسطروا أعظم العلوم الإنسانية ويحققوا ذواتهم ، ويثبتوا أهميتهم، وينالوا أعلى مقامات الثناء” .

تأملي ياشهرزاد تلك الكلمات برقة ستجدين التماس الثناء والإهتمام حافزا لهؤلاء المبدعين في شتى الميادين ، لكنه ليس أصل الحكاية ، إنه كماء بارد يروي قلوبا أتعبتها مسيرة طويلة في صحراء قاحلة قبل أن تبلغ مقاصدهم ، وأجد التجرد من قصد الإبداع والعطاء لتحقيق الذات ابتداءً بنية التماس الثناء ، والشعور بالأهمية مدعاة للفشل في أداء رسالة الحياة ، ليس عند الوالدين وحسب بل عند كل من سعى لشهرة زائفة ، وثناء مصطنع لن تسطره كتب التاريخ في سجلات المبدعين .

ودعينا نتحدث عن الوالدين حصرا على قاعدة ( خيمة حانية وعطاء دائم ) ، وعلّنا نستنهض في قلوب مصطنعي النجاح محبة أداء الأمانة ليأتيهم الثناء على طبق من ذهب .

إنهما مزارعان تكاتفا وتعاهدا على حرث وزراعة أرضٍ لم تعرف النبت من قبل ، قضيا تسعة أشهر يترقبان البذرة وهي تشق الأرض لترتشف الهواء النقي وتلامس أشعة الشمس للمرة الاولى ، ثم مرت عليهما سنوات وهما يسقيان الزرع الأخضر طيبا وحنانا ، وسهرا الليالي الطوال ،والسنين الثقال ، وهما يقومان ما اعوج من سيقان الشجيرات ، وسنوات أخرى وهما يحرسان الأشجار اليانعة ، حتى تكحلت عيناهما بأثمارها الطيبة التي لم يذوقا مثلها من قبل ، هل ترين ياشهرزاد إنهما بذلا كل هذا الجهد من أجل ان يسمعا كلمات مديح ، او عبارات ثناء ؟!.

هي الرسالة الأسرية والأمانة الربانية يؤديها كل أبوين حانين ،إنها الحياة بلا رتوش، تحقيق الذات وضمان البقاء بأبهى صوره الإنسانية بعيدا عن الخيلاء وأنتظار المقابل ، إنها الخيمة الحانية والعطاء الدائم، انهما الوالدان بكل بساطة .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]