18 ديسمبر، 2024 9:00 م

من وحي شهريار وشهرزاد (30) سحر البيان

من وحي شهريار وشهرزاد (30) سحر البيان

شهرزاد : هل يكفي أن نرسم صورة طيبة للناس من حولنا ، ونطبع على وجوههم إبتسامة حالمة ؟ ، أم أن تلك الأحوال المبهجة بحاجة الى طاقة مستدامة لنصل بمن نحب الى مقاييس السعادة ؟

شهريار : هي الكلمة ياشهرزاد تدواي وتجرح ، تُحزن وتُفْرِح ، ترفعنا الى عنان السماء او تلقي بنا في وادٍ سحيق ، هي كنسمة باردة في موسم صيف لاهب ، أو كريح عاتية في شتاء قارس ، هي آنّات في يوم حزن شديد ، أو ضحكات بعد وجع أليم ، هي الأنوار التي تتفتح لها بصائرنا ، او الظلمات التي تعمي أبصارنا ، هي بداية النهاية ، او نهاية الركود ، هي مفتاح لحياة جديدة ، او مقبرة لكل الآمال .

ولو تفكرنا بهذه المعاني لما تحدثنا قبل أن نزن الكلام بميزان الذهب ، دقة ومعنى وأثرا .

لقد استجمعنا في دواخلنا كل معاني الخير، الإبتسامة الصادقة ،والنظرة الطيبة ، وتهاوت الأنا المتعجرفة تحت أنوار المحبة ، وتجسد أمام أبصارنا هدف واحد : أنْ نَسعَدَ ونُسعِدَ من حولنا ، ومن باب أولى ان تكون كل الكلمات المنطلقة من ألسنتنا ،في تلك السويعة ، كلمات هادفات باعثات للأمل والتفاؤل والتقدير والإحترام ، لكن الأمر لا يخلو من حماسة زائدة تتدفق معها كلمات ذوات أثر سيء.

حقا نحن في حالة صفاء ذهني ، ونعيش في ظل طاقة محبة انتشر عبيرها على الحاضرين ،لكانها أثارت إعجابهم، فتحركت (الأنا المتفاخرة ) من جديد لتصيب ،في لحظة غفلة منا ، مسامع أحدهم بما يكره.

تلك الحماسة ياشهرزاد لابد أن تبقى تحت السيطرة ، وأن لا ننسى أن مدارك الناس مراتب ، وأن للكلمة الواحدة معاني كثيرة تختلف في وقعها ،وأثرها من شخص الى آخر .

خذي مثلا كلمة ( الآخر ) ، التي طالما مر ذكرها في كلامنا ،ولم نقصد فيها ولو لمرة واحدة إلا المعنى الأسمى ، وهو المتلقي الموقر لدينا بعقله وسلوكه ومفاهيمه وإنْ اختلف معنا كل الإختلاف ، لكن لهذه الكلمة معاني أخرى ، ومنها ما يأخذ معنى النظرة الفوقية فهو بحسب هذا المعنى المذموم (الشخص الأدنى منا ) علما ومعرفة وحقا في الحياة ، ويتداول هذا المعنى الجبابرة والغارقون في الملايين وأصحاب السلطة ( ألا من رحم ربي) ، وتعني عامة بهذا المفهوم الطبقة الشعبية الفقيرة وهي خارج حسابات السلاطين .

أمّا المعنى الثالث فهو أكثر تطرفا ، فإن الاخر تعني (من يخالفني بالراي فهو عدوي ) ، وياله من معنى مبطن يستخدمه المتطرفون بنظرة عدوانية لا تخلو من نية إشعال الفتنة على اختلاف مسمياتها .

شهرزاد : عجبا اذا كانت كلمة واحدة قد تعني الصديق والعدو والأدنى في وقت واحد فكيف الحال ونحن نسطر جملا لاحصر لها في جلسة واحدة؟!.

-لا أخفي عليك سرا إنْ قلتُ: أن الخطا وارد في الحالات كلها ، فان معاني الكلمات التي يدركها كل إنسان مرتبطة بالبيئة التي عاش فيها ،والمفاهيم التي تربى عليها ، وتصوري أننا أطلقنا هذه الكلمة ( الآخر) في تلك الأمسية الحالمة، ومن بين الحاضرين من يفهمها بالمعنى الودي فيبتسم متفهما ويستمع الى بقية الكلام ،ومن بينهم أيضا من يفهمها كنظرة استعلاء عليه ، فيتجهم وجهه وتنتفخ أوداجه ، ولو حلف المتحدث ألف مرة بأنه لا يقصد هذا المعنى لما صدقه أبدا .

وأقول جازما : لو كان في جعبتنا كل قواميس الأضداد والمترادفات وحفظنا معاني كل الكلمات ما نجونا من اللبس في المعنى المفهوم ، ربما نستطيع حصر معاني الكلمات ، لكننا أبدا غير قادرين على جمع المفهوم الذي يصل الى عقول الناس ، ومن هنا جاء علم البيان ليفصح عن المعاني التي نريدها ،وتبلغ أعمق نقطة في روح السماع وقلبه .

يقول الميداني” البيان اجتماع الفصاحة والبلاغة وذكاء القلب مع اللسان، وإنما شبه بالسحر لحدة عمله في سامعه ، وسرعة قبول القلب له ،يضرب في استحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة”.

اذا علم البيان حجة لنا لا حجة علينا وله اثر (السحر الطيب) في النفوس، والفعل المنير في العقول ، والطاقة الخلاقة في الأبدان .

شهرزاد : لكن ألا ترى أن الامر لا يخلو من مهادنة او كذب ومبالغة ؟ ، فيستغل المتحدث فصاحته ،ويسحر الناس بمنطق مكذوب ، ليصل الى غايات دنيئة او شريرة؟!.

– لاتخلو أحوال المتحدثين من هذه النوايا ، وهو الجانب المنهي عنه في تفسير قول الهادي البشير (ص) : ” إن من البيان لسحرا ” ،فسحر البيان ممدوح ومذموم على أساس النوايا والصدق والكذب .

ولا تنسي ياشهرزاد طاقة المحبة والإبتسامة الصادقة ،والتصور الذهني الطيب الذي انطلقنا منه ، ونحن نحدث الناس في ذلك المجلس .

يقول الفيلسوف الإسباني جوزيه اورتيجا جاسين : “ربما كانت التعابير المجازية أكثر ما ابتدعه الإنسان قوة ، فمفعولها يصل الى درجة السحر ، إنها الأداة الخلاقة التي غرسها الله في أحد مخلوقاته عند خلقه”.

حقا ياشهرزاد إنها الاداة الخلاّقة في كل واحد منا إنْ أحسن استخدامها للتعبير عمّا يريد ، بل إنها الإرادة الأقوى القادرة على الإقناع والتحفيز والوصول الى قلوب الناس ، واستنهاض معاني الخير والنجاح والمحبة فيهم ، إنها تعابير تختصر الأزمان والمسافات ، وهي كالإشعاع الممتد الى اللانهاية ينير النفوس ، ويبلغ سر الأرواح .

لقد جاء القرآن الكريم متحديا لأكثر ما يجيده العرب وهو فصاحة اللسان وسحر البيان ، فأسكت الشعراء ، وأعيى الأدباء الذين عجزوا عن الاتيان ولو بآية واحدة من مثله ، وأن للبلاغة القرآنية أعمق الاثر بإستحضار الخير في النفوس (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) .

ولنأخذ تشبيها رائعا للكلمة الطيبة وأنوارها والكلمة الخبيثة وآثارها ، قوله تعالى :” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ” .

وعلى إختلاف ماذهب إليه المفسرون لمعنى الكلمة الطيبة الوارد ذكرها في هذه الآيات الكريمات ، فقد شبه رب العزة الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة التي يمتد أثرها الى عنان السماء ، هي ذابتة راسخة ، لها أطيب الأثر في النفوس ،وهي مثمرة في كل حين ،بخلاف الكلمة الخبيثة التي لا تثمر إلا فعلا خبيثا ، وتتهاوى أدراج الرياح ( مالها من قرار ) .

بالكلمة الطيبة النابعة من القلوب نحيا ياشهرزاد ، وننعش آمال الخير والمحبة في قلوب الناس وقلوبنا ، حينما نستحضر معاني الخير في نفوسنا تنطلق ألسنتنا بأجمل المعاني ، ونبلغ أعلى الأوصاف ، ذلك أننا نستلهم الإبداع من المعاني السامية التي لا يمكنها بكل الأحوال إلا ان تزدان بطيب مقاصدها .

لقد أعطيتك ياشهرزاد قواعد لاغبار عليها ، حاولي تطبيقها في أي مكان شئتِ ، وسترين الأثر السحري للمعاني البليغة على قناعات الناس وأفعالها .

 

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]

صفحة 1 من إجمالي 2