23 ديسمبر، 2024 12:19 ص

من وحي شهريار وشهرزاد (23)

من وحي شهريار وشهرزاد (23)

الشمبانزي والسياسي كلاهما يبتسم
قلنا في المرة السابقة إن المازوحي الذي يعمل موظف استعلامات بمستشفى نود زيارة مريض فيها يتلوى بين ابتسامتي الأنتصار والرضوخ وهو يقول : “موعد الزيارة انتهى ..إرجع غدا” .

وقلنا ايضا ياشهرزاد إن تلك الابتسامة توقع المتلقيين بإحد ثلاثة فخاخ ، فإمّا أنْ نرضخ ونبتسم إبتسامة (المازوخيين) وننصرف ،وإمّا أن نبتسم ابتسامة (قناعة) بما نسمع ونحترم النظام ، أو نبتسم ابتسامة الإستماع التي يصاحبها همهمات تدل على عدم تأثرنا بما نسمع ، وفي الحالتين الأولى والثانية فإننا ننصرف مبتسمين ، وفي الثالثة نستنهض روح الإقناع في داخلنا ونبتسم ، وسألتني ياشهرزاد ان كنت اعتبر انصرافنا مبتسمين في الحالتين الأولى والثانية سعادة ،وقد أخفقنا في تحقيق هدفنا؟. وقبل الإجابة دعيني أخبرك بتجربة سادية مشهورة أجراها الطبيب النفسي كارني لانديس عام 1924، عندما جمع عدداً من الطلاب والأساتذة في جامعة مينيسوتا ، إضافة الى مرضى نفسيين بينهم طفل في الثالثة عشر من العمر في غرفة صغيرة لمعرفة تأثير الصدمة والخوف على هذه الفئات المختلفة .. أجلسهم على كراسي مريحة، ورسم على وجوههم خطوطاً واضحة تمكنه من قياس تعبيراتهم ، وتقلصات ملامحهم مهما كانت بسيطة، وأطلق ألعاباً نارية متفجرة تحت كراسيهم، وعرّضهم لصعقات كهربائية، ثم أتاهم بفئران بيض حية،و طلب منهم أن يقطعوا رؤوسها، وكانت المفاجاة بأن الجميع كانوا يبتسمون ، وفي حينها كتب أنديس قائلاً : (كلما أوغلت في القسوة أثناء هذا الإختبار، لم أكن أجد تعبيراً سوى الإبتسامة التي كانت حاضرة في عدد كاف من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها، لاعتبارها إنموذج تعبير مشترك في ظروف مختلفة).

التجربة لم تلقَ ترحيبا باعتبارها تجربة وحشية وغير إنسانية ، كما أنّ علماء النفس لم يعترفوا بنتائجها ، وعلى افتراض أن ماقاله لانديس كان صحيحا يتبادر الى الذهن سؤال ملح : ما الذي جعل هذه العقول بادراكاتها المختلفة تعطي إيعاز الابتسامة المشتركة ؟ .

قلنا فيما سبق أن المرضى النفسيين يعيشون عالما خاصا ،ويفلسفون الأمور بما يسعدهم حتى ذلك الصبي ذو الثالثة عشرة الذي أشركه لانديس في تجربته الوحشية ، وبرأيي فإن أطباء النفس وطلبة العلوم النفسية نالوا نصيبهم من الرعب والمفاجات والإذلال ، فتبسموا رضوخا أو غبطة أو حتى سخرية من التجربة السادية ، في الحالات كلها كانوا يبتسمون للخلاص من الموقف ، عقولهم صارعت الواقع المرير تحت عنوان (تجربة وستنتهي قريبا) فأبتسموا لتخفيف إحساسهم بالألم .

كما ترَين ياشهرزاد ، فان عقولنا اللاواعية تدافع عن الطمأنينة في نفوسنا عبر إبتسامة خفيفة في أوقات الشدة بمجرد استلامها إيعازا من المخ بأن ما يحصل حولنا كابوس وسينتهي .

ولو عدنا الى إبتسامتي الرضوخ والقناعة في الحالتين اللتين سالتني عنهما ، فإننا منصرفون لا محالة ، وعلى أساس مبدأ المخالفة فالإنصراف بدونهما يعني التحسر والحزن والألم ، إنّ كلتا الإبتسامتين لم تكونا لإرضاء هلمر الصغير،وإنما للترفيه عن أنفسنا ، لقد حققنا انتصارا على الألم والتحسر ، وعدنا أدراجنا بخسارة أقل ، هي الإبتسامة ياشهرزاد تطري النفوس، وتطمئن القلوب ، وتحفز العقول على فلسفة الأمور بما يخفف من وطأة الألم، ويزيد من فسحة الأمل .

شهرزاد : تقنعني في كل مرة بطرق عجيبة ، لكن ماذا عن الإبتسامات الأخرى كالخوف والإحراج والإزدراء.

-أسلفنا إن السر الذي يجعل الإبتسامة لغة يفهمها الجميع إنها تأتي بإتساق عجيب مع تعابير الوجه، لكل ما مر ذكره، توصل المعنى المقصود بعمق أكبر ، ولعلّ من أجمل الإبتسامات تلك التي ترافق لحظة الإحساس بالخجل أو الإحراج ، ذلك أنّ إحمرار الوجه يكون مصحوبا بشد الخدين ،وإبتسامة خفيفة مع رأس مائل إلى الأسفل، او باتجاه اليسار قليلاً، تلك الإبتسامة تبعث برسائل اعتذار رقيقة ،أو طلب توقف عن زيادة الإحراج ، فأن كان صاحب الإبتسامة مذنبا لانت له النفوس ، وأنجته ابتسامته من العقاب ، أو خففت منه على أقل تقدير ، وإنْ كان مجنيا عليه رقت له القلوب ، وتفَكر أصحابها مليا ، وقد يصيبهم حرج أكبر إْن كانوا من أصحاب الأفئدة الطيبة .

وأمّا أبتسامة الخوف فإني أجدها مبالغة إن أطلِقتْ على الإنسان ، فقد أكتشف الباحثون أن الشمبانزي يخاف فيفتح فمه حتى آخره ويظهر أسنانه على شكل إبتسامة ، ورآى داروين الذي إهتم بـ(علم الإبتسام) ، وعلى فرض أن تعبيرات الوجه غريزية : أن رفع الحاجبين ، الذي يدل اليوم على المفاجأة ، قد ورثناه عن أسلافنا الذين اعتادوا على رفع حواجبهم لتوسيع مجال الرؤية، وبالتالي الهرب من الحيوانات المفترسة.

وهنا تكمن المغالطة .. حينما يلجا بعض الباحثين الى استدلال ليس في محله بين ابتسامة الشمبانزي المرعوب ، والإنسان الخائف ، فأحدنا إذا شعر بالخوف لا يبتسم وإنما يرفع حاجبيه ، ويبحلق بعينيه وقد يفتح فمه، وترتعد فرائصه، وتتسابق أنفاسه ، أمّا تلك الإبتسامة التي أودعها الله في الشمبانزي فهي للتعبير عن خوفه بإظهار أسنانه، وتثبيتها على بعضها البعض، ليؤكد أنه لن يقدم على الهجوم أو العض.

وقد قلنا آنفا أن تجربة (لانديس) السادية دفعت بأطباء النفس وطلبة العلوم النفسية الى أبتسامة مشتركة للخلاص من الموقف ،وتخفيف إحساسهم بالالم ،فقد صارعت عقولهم الواقع المرير :(تجربة وستنتهي قريبا) ، بمعنى أن الإنسان يبتسم ليبعد عنه الخوف .. إنها ابتسامة مضادة للخوف وليست أثرا له .

ولا أنكر أن بعض حالات الخوف يصاحبها ابتسامات حائرة ،او مرتعدة ،وتلك دلالة على صدمة عالية تفوق ملامح الخوف نتيجة لمفاجاة غير متوقعة ، وسرعان ما تتحول الى بكاء أو صراخ ، وعويل يمحي أي أثر للابتسامة ، بل إن الإنسان الخائف إذا أحس بأول لحظة طمأنينة بعد دقائقِ الفزع تبسم فرحا .

ولابتسامة الإزدراء أثر جارف ، وهي الى حد كبير تشبه الإبتسامة العفوية ،غير إنها تمتاز بشد زوايا الشفاه ، ولإنها مزيج من الاشمئزاز والإستياء، فهي تكبح جماح المتسبب بها بفعل أو قول غير محمود ، وتجبره على السكوت، او الإعتذار .

ودعيني أخبرك بنوع ماكر من الإبتسامات..إنها ابتسامة السياسيين ، إنهم يتدربون عليها كما يتدربون على الخطب الرنانة ، والعبارات المؤثرة بالجماهير ، وهي ابتسامة إرادية مصطنعة لإيصال رسائل الرضا عن الأوضاع ، فالإبتسامة الحقيقية العفوية لا تستمر طويلا ، بينما (الإبتسامة السياسية ) مستمرة لإيصال الرسائل ، فان غابت فجأة فهي رسائل مضادة تدل على إستياء صاحبنا من أمر ما حدث أثناء اجتماع مهم ، أو في محفل جماهيري كبير ، وكلما اقتربت الإنتخابات إتسعت واشرقت إبتسامة السياسيين ،وطال أمدها أكثر فأكثر .. حقا إنني لاعجب من قدرتهم على الإستمرار بإظهار الرضا والسعادة أشهرا طويلة ، فإن فاز أحدهم حل محلها إبتسامة الإحساس بالإنتصار ، وهي إبتسامة صادقة سرعان ما تختفي حتى إشعار آخر ، وقد يطول الأمر الى الإنتخابات المقبلة ، لكن السياسي الفطن لاينسى أهمية ابتسامته الأولى، والمفارقة أن الشعوب تدرك إنها مصطنعة ،لكنها تشعرها بالأمان مادام المسؤول مبتسما .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]