22 ديسمبر، 2024 2:14 م

من وحي شهريار وشهرزاد (22) ابتسامة المجنون الفيلسوف

من وحي شهريار وشهرزاد (22) ابتسامة المجنون الفيلسوف

من وحي شهريار وشهرزاد (22)
ابتسامة المجنون الفيلسوف
لأنها اللغة التي يفهمها الجميع فهي قادرة بلا شك على إيصال المعاني المقصودة .. باختصار الإبتسامة لغة العالم بأسره.

الدراسات الحديثة تتحدث عن 50 نوعا من الإبتسامة وتفاصيلها كثيرة ، لكن اللافت في الأمر أنها جميعا تتلخص بالتعبير عمّا يراودنا من مشاعر يفهمها الجميع ـ وعلى رأسها الإبتسامة الساحرة .. إبتسامة السعادة التي هي مفتاح للقلوب وبدون منازع ،وكلنا ننجذب الى أصحاب هذه النعمة لسبب بسيط ذلك أننا نبحث عما يسعدنا بشكل مستمر، والمفارقة أننا نبحث عنها في وجوه الآخرين ونفتقر أليها في تعابيرنا ، إلا من حفظ الدرس ، وأدرك أهمية تلك الإبتسامة في إسعاد نفسه وأسرته وأصدقائه وكل من حوله ، وحتى ابتسامة التعاطف للتعبير عن المواساة ، أو الإحساس بألم الاخرين هي إبتسامة ساحرة توصل الى المتلقي عبارات رقيقة تعجز عنها الألسن في اللحظات الحزينة .

شهرزاد : البعض يسميها إبتسامة البؤس ألا تراها كذلك ؟

– نتحدث هنا عن ابتسامة خفيفة ترتسم على الشفاه ،والعجيب أنها تتقاطع مع الحزن البادي في العينين لكنها بتوليفة ربانية تعطي معنى المواساة ، فكيف لنا أن نسميها ابتسامة البؤس؟! .

شهرزاد : لكن البعض يطلقها للتعبير عن حزنه وآلمه الخاص فمن يواسي بها ياترى؟!.

– هو يواسي نفسه ..فمهما كانت الإبتسامة ضيّقة فهي تبعث على الإرتياح ،وقد يَطلبُ بها إبتسامة مواساة من المتلقي ،فإن حصل عليها في الوقت المناسب ، قد ينفجر بالبكاء لبرهة ، لكنه سرعان ما يشعر بالتحسن ، والتجارب في حياة كل واحد منا كثيرة بلا شك .. هي إبتسامة تعاطف نطلقها لنواسي بها الآخرين، او أنفسنا ، وفي كلتا الحالتين فإن لتلك الإبتسامة الخفيفة مبعث أمل وسط أجواء ملبدة بالأحزان والآلام .

وليس كل ابتسامة لها تأثير إيجابي ، فهنالك إبتسامة متعجرفة وأخرى سادية ، إنما أدافع عن أصل فعل الإبتسامة ، لكن معانيها الأخرى بفعل مايختلط بها من تعابير الوجه كاتساع العينين ، او ضيقهما ، ورفع الحاجبين وخفضهما ، وانفراج الوجنتين أو التصاقهما ، أسمحي لي أن اتحدث على سبيل المثال لا الحصر عما يسمى بابتسامة (دوشيني) نسبة لطبيب الأعصاب دوشيني دو بولوغن،وهو من مؤسسي مدرسة العلاج بالكهرباء،ومن المهتمين بدراسة تعبيرات الوجه، وبالتقلصات التي تحدث فيه عندما يبتسم المرء.

لقد عمد دوشيني إلى إخضاع الوجوه لشحنات كهربائية، ومراقبة كيفية تفاعل عضلاتها ،وهي عملية مؤلمة لم يستطع تجربتها على الأحياء ، حتى التقى برجل مختل عقلياً، لا يمكنه التحكم بعضلات وجهه ،فلما عرضه للشحنات الكهربائية ظهرت على وجهه إبتسامة عريضة تنم عن علامات سعادة ، وقد وصفت في وقتها بانها ( سعادة غبي ) ، وقد تقلصت الدوائر حول عينيه.

ولا أدري ياشهرزاد لماذا يسمونها بالابتسامة الغبية ، أترانا نصف من يرسم على وجهه ابتسامة عريضة مع تقلص هالة العينين بأنه غبي ؟ !.

غالبية المجانين – من غير المصابين بعاهة في خلايا الدماغ أو لأسباب عضوية أخرى- يجدون شعورا بالأهمية لم يستطيعوا تحقيقه في عالم الواقع ، كما يؤكد أطباء الإختصاص ،إنهم سعداء في عالمهم الخاص ، يحقق أحدهم أحلامه من غير ان يصطدم بالواقع المرير ، والشواهد كثيرة ..فمنهم من يتخيل نفسه أمير البحار ، أو قائدا لجيوش هتلر ، أو معلما لإفلاطون ، أو مهندس برج إيفل ، او آسر قلوب العذارى ، أو محطم الأرقام القياسية في العاب الساحة والميدان ، وغير ذلك كثير، ولا أدري كيف حكم (دوشيني) المتخصص بتعابير الوجه على ابتسامة المجنون السعيد في تلك اللحظات بأنها ابتسامة غبية ، ربما نسي أو تناسى أن صاحبنا يعيش عالمه الخاص ، وأنه قادر على ترجمة تلك الشحنات الكهربائية لقبلات من شفتي حبيبته التي عجز عن الزواج منها في الواقع ،أو أنها لسعات نحل يدافع عن قلعته العسلية وقد سال شهدها في فم صاحبنا المحروم من طعمه اللذيذ منذ سنوات .. لم تكن تلك ابتسامة غبية ياشهرزاد ، إنها إبتسامة فيلسوف وجد ضالته في شحنات دوشيني .

حتى المتتبعين لتلك الإبتسامة يسمونها اليوم (الإبتسامة العفوية) التي تنتج عن مشاعر متعة غامرة، فهي تشرق من فتحة فم عريضة برغم تقلص العينين.

أمّا المتعجرف فإنه من يحمل صفة الغرور والتكبّر كما أسلفنا ، ولو سلمنا بأنها أبتسامة تحمل دلالة الغطرسة والإعتداد بالنفس بإطباق الشفتين مع ارتفاع الشفة العليا قليلا الى الأعلى وربما رفع الحاجبين ، تزامنها نظرة دونية للمتلقي ، لكنها وبرغم نواياه السيئة تثير الضحك لدى كثير من الناس ، أي إنها تسعدهم ولو بنية السخرية من المتغطرس ، كما ترين ياشهرزاد حتى ابتسامة المتغطرس لها اثر سعادة على النفس .

شهرزاد : أنتظرك أن تقنعني بسعادة تجلبها إبتسامة السادي فان فعلتْ صدقتُ أنّ للابتسامة أثر إيجابي في الأحوال كلها .

شهريار : ذكرنا آنفا إن ابتسامة السادي تشعره بالسعادة وتحقيق الأنتصار،وهي ابتسامة لئيمة خسيسة الطباع ، وعلى إفتراض أن البيروقراطي أكبر نماذج السادية الباردة في مجتمعاتنا وحتى المجتمعات الغربية ،فإنه بشكل او بآخر سيكون تحت وطاة المازوخية من السادي الاكبر حيث يعمل، وهو بالنتيجة يتلوى بين ابتسامتي الإنتصار والرضوخ ، ونزيد هنا أن تلك الإبتسامة تبدأ برفع الشفة السفلى قليلاً ، وربما تحريك الرأس جانباً أو إلى الأسفل،قبل أن ينطق (هلمر الصغير ) ، وإنْ كان موظف استعلامات بمستشفى نود زيارة مريض فيه ، ليقول : “موعد الزيارة انتهى ..إرجع غدا” .

تلك الابتسامة ياشهرزاد توقع المتلقيين بإحد ثلاثة فخاخ ، فإمّا أنْ نرضخ ونبتسم إبتسامة (المازوخيين) وننصرف ،وإمّا أن نبتسم ابتسامة (قناعة) بما نسمع ونحترم النظام ، أو نبتسم ابتسامة الإستماع التي يصاحبها همهمات تدل على عدم تأثرنا بما نسمع ، وفي الحالتين الأولى والثانية فإننا ننصرف مبتسمين ، وفي الثالثة نستنهض روح الإقناع في داخلنا ونبتسم – بعد تفكير سريع- إبتسامة سحرية تتبعها كلمات توقير لهلمر الصغير ، واعتذار شديد عن (سبب طارئ) أخّرنا عن موعد الزيارة ، ورجاء السماح باجرائها ، وغالبا ما تنال تلك المسرحية رضاه ، وتشعره بشخصية الآمر الناهي ، فيشير لنا بإحدى يديه الى غرفة المريض .

يقول ديل كارينجي : (الطريقة الوحيدة التي أستطيع إتباعها لكي تفعل كل ما أريده ، هي منحك ماتريده أنت ) .

باسلوب كارنجي ياشهرزاد وأبتسامة الإقناع المتفجرة من أعماقنا استطعنا أنْ نمنح السادي ما يريد فمنحنا مانريد .

شهرزاد : وهل تعتبر انصرافنا مبتسمين في الحالتين الأولى والثانية سعادة، وقد أخفقنا في تحقيق هدفنا .

– ساجيبك في لقائنا المقبل فللحديث بقية .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]