من وحي شهريار وشهرزاد (19)
حكاية البيروقراطي السادي في دائرة التقاعد ببغداد
شهريار : وعدتك في المرة السابقة أن اضرب لك مثلا حيا لعلاج أحد الساديين المترنح تحت عباءة المازوخية ، فإن لي مع البيروقراطيين صولات وجولات ، وهذا هو حال المراجعين للدوائر الحكومية في المنطقة العربية عامة ،إلا ما رحم ربي ، فقد قضيت عاما تقريبا في إنجاز معاملة القسام الشرعي بعد وفاة أبي رحمه الله ، وكان شرا لابد منه كخطوة أولى لاستحصال الراتب التقاعدي لإمي ، في آخر المطاف رمى بي القدر أمام بيروقراطي عتيد في هيئة التقاعد العامة ببغداد ، ولأنني مضطر الى اصطحابها معي في كل يوم ، وبسبب خطواتها المثقلة بهموم العقود الطويلة كنت أصل متاخرا الى الدائرة ، وأقف في آخر الطابور الممتد لأكثر من 30 مترا ، أجْلِسُها على مقعد قريب قبل أن ابدأ بعدّ الساعات علّني أصل الى الشباك المنشود لأكحل عينَي بطلعته البيروقراطية ، كنت أسترق النظر إليه عن بعد ، وقد علا التجهم وجهه ، ومن خلفه باب يدخل منه مراجعون قد من الله عليهم بتهميش من (السادي الكبير)، فيترك المراجع الذي يحدثه عبر (شباك المظالم) ويتهلل وجهه بتمشية معاملة القادم من الخلف ، الذي أعاده الى خانة المازوخي المطيع ، وبعد ربع ساعة أو أكثر يلتفت الى المراجع مرة أخرى ليتجهم وجهه من جديد ويقول للمتشبث بالشباك ، المعترض على عدم إحترام الطابور : المعاملة مرسلة من المدير لا أستطيع تاخيرها .
في اليوم الأول كان بيني وبين (شباك الأحلام) 3 مراجعين قبل أن ينظر إلينا بابتسامة لئيمة ملؤها السعادة وهو يقول: تعالوا غدا إنتهى وقت الدوام .
في اليوم الثاني تكرر المشهد وكان بيني وبينه 5 أشخاص ،ولم يبقَ على الوقت الفعلي للدوام إلا 15 دقيقة ، أطلت النظر إليه من فوق الرؤوس المطرقة من تعب الإنتظار ، وهو ينظر الى ساعته بانتظار اللحظة المناسبة للإبتهاج بانتصار جديد على ضحايا الطابور اليومي ، في حينها إرتسمت أمام عيني القبعة العسكرية لهاينرش هلمر قائد القوات الخاصة في جيش هتلر والأب الروحي لمحرقة الهولوكوست حينما كتب رسالة لأحد القادة النازيين وهو دالبرت غراف كوتولينسكي جاء فيها :
(الحبيب كوتولينسكي لقد كنتَ مريضا وقد عانيتَ كثيرا من مرض القلب ، من أجل صحتك أحظر عليك ولمدة سنتين ممارسة التدخين ، بعد سنتين يتوجب عليك تقديم تقرير طبي ، وبناءً عليه أتخذ قراري في رفع حظر التدخين ، او أقوم بتمديده .. يعيش هتلر).
إحمرّ وجهي آلما، وتسارعت نبضات قلبي وأنا اتذكر ذلك الإذلال العظيم لقائد عسكري كبير في معركة طاحنة ، في تلك اللحظة وقعت عينا (هلمر الصغير) عليَّ ، ولم ير مني الا وجها متجهما فاقت ملامحه ساديته المجيدة ، إنتبهت الى الشباك وهو يُغلقُ في وجهي لكنني دفعته في اللحظة الإخيرة ، ابتسمتُ بإعجوبة وقلت: مازال هنالك 10 دقائق.
بازدراء وابتسامة متعجرف أجابني : معاملتك تتحتاج الى أكثر من نصف ساعة إرجع غدا ، ثم أغلق الشباك بقوة .
في صباح اليوم الثالث وصلت مبكرا بعض الشيء ،وأنا أحمل في جوفي إبتسامة أقسمتُ ألا تتوقف حتى أصل الى البيروقراطي المتحامل عليّ منذ الأمس ، تلك الإبتسامة كانت حصيلة ساعات من السهر والتفكير ، قلت لنفسي وأنا أتقلب في فراشي : لو كان كوتولينسكي حاذقا لتحامل على جراحاته ،وتجرأ على محاكاة عقلية هلمر في زيارة خاطفة ، كان بإمكانه أن يصل إليه بزعم مراجعة خطط عسكرية او أية ذريعة أخرى ، وأن يبدي قوة مصطنعة تدرب عليها النازيون كثيرا ، وهو يؤدي التحية العسكرية ، ويرسم ابتسامة ثقة على وجهه ويقول: سيدي لقد تركتُ التدخين قبل أن تصلني رسالتكم العزيزة ، وكنت أود لو أنني مازلت أدخن السجائر حتى أمتثل لأوامركم.
ربما كان هلمر سيشعر بخيبة أمل لضياع معنى التحكم والسيطرة ، ويسمح له بالتدخين ولو لإسبوع واحد قبل أن يعلن كوتولينسكي الإقلاع عنه مجددا خضوعا وإذعانا لهلمر .
ذلك الأسبوع هو الأعز في حياة كوتولينسكي لأنه كسب المزيد من الوقت للتدخين وهو الأسعد لهلمر ليعيش التحكم والسيطرة من جديد .
كنت أميل برأسي يمينا ويسارا وسط الطابور بين الحين والأخر ليراني (هلمر الصغير) وأنا مبتسم الوجه ولسان حالي يقول : أحيي فيك إخلاصك في تطبيق القانون ، وفي مداخلة سريعة قلت لأحد المراجعين المعترضين على البيروقراطي بعد أن طلب منه مستمسكا (قانونيا) لم يكنْ بحوزته : يارجل أطيعوا القانون .. الموظف يقوم بواجبه وحسب .
رمقني (هلمر) بنظرة ماأذكر أنني رايت مثلها قط ، وابتسم برضاً وهو يقول : بارك الله فيك .
ماهي إلا سويعة وكانت هوية التقاعد في يدي ، ومازالت الإبتسامة على وجهي حتى غادرت مع أمي منتصرَينِ الى البيت .
شهرزاد : عذرا لكن هل كان ذلك موقف خضوع منك أم خدعة لتمشية الأمور ؟
– حينما ابتسم كوتولينسكي في وجه هلمر كان يدرك في قرارة نفسه أنه يكسب وقتا قبل أن يخضع من جديد ، وحينما ابتسمتُ أنا شعر هلمر الصغير بالأمن الداخلي وهو أكثر ما يفتقد اليه البيروقراطي السادي ،فهو (يطبق القانون) وحسب، وبين الحالتين فرق عظيم لا يغيب عنك ياشهرزاد ، فالابتسامة التي رافقتني في اليوم الثالث كانت نابعة من قلبي ، لقد إستحضرت ،في الليلة الماضية ،صفة في البيروقراطي لاغبار عليها إنه يحب تطبيق القانون ، ولأنني أدرك أن (هلمر العصر) يتقلب بين السادية والمازوخية ليشعر بالأمان ،ولو استحصل على ابتسامة مَحبة واحترام طلما افتقدَ إليها تهاوت لديه الصفتان في لحظة طمأنينة نادرة ، ذلك الإحساس الرقيق بددَ رغبته العارمة بممارسة السادية الباردة ، وأغلق شباكه وهو يشعر بالرضا لأدائه الواجب ،وإنجاز معاملة آخر مراجع في ذلك اليوم ، تلك النظرة الممتلئة بالإحترام والمحبة الصادقة أوصلت إليه رسالة مفادها : ” نعم أنت تؤدي الواجب فلا تقلق” ، أظن أنه عاش يوما نادرا حتى صباح اليوم التالي حينما جاءه إشعار من السادي الكبير أعاده الى المازوخية من جديد.
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]