22 ديسمبر، 2024 2:31 م

من وحي شهريار وشهرزاد (17) المحبة في مواجهة العدوانية (الجزء الثالث )

من وحي شهريار وشهرزاد (17) المحبة في مواجهة العدوانية (الجزء الثالث )

شهريار : وعدتك في المرة السابقة ان نرد على أصحاب الآراء الثلاثة لنؤكد ان العدوانية خلقٌ مكتسب ودخيل على النفس البشرية .

لقد أعتمد لورانس النتيجة لدلالة على الأساس الذي تنبع منه العدوانية، فهو يرى -كما أسلفنا ـ أن تراكم العدوانية يؤدي الى الإنفجار ،لكنه لم يثبت أبدا ان تلك التراكمية ناشئة من الداخل ،وهو يعرف ،كما نعرف تماما، أنها تتراكم في الداخل وحسب، ولقرب ماقاله لورانس من الطاقة المتولدة في البخار بفعل النار ، التي تُولد الإنفجار ، يرتفع غطاء القدر ويتراقص بعنف لكنه لم يكن أبدا يحمل هذه الطاقة في داخله إنما أوجدتها النار ، كما تولِّدُها الظروف القاسية في النفس البشرية كالظلم والتهميش ، او دوافع السيطرة ، وإتساع الملك، وجمع المال ،لكن العنف لم يولد في الإنسان أبدا ، فكما إن هنالك حروبا وظلما وبطشا وتنكيلا ،فهناك الصيادون الطيبون ،والمزارعون المسالمون ،والمبدعون في مجالات الحياة المختلفة ، أجد أن الطاقة المتولدة في الإنسان والدوافع نحو السلام ، أوالعدوان منابع خارجية تصب سيولها في نفوسنا لتزيد الخير ، او لتصنع الشر .

ومازلنا نكرر ان المحبة متأصلة في الروح فهي طاهرة طيبة ، وكل طيب طاهر مُحبٌ وإني لأميل كل الميل الى أصحاب المذهب الثاني ممن يرون إن القيمة الإنسانية العليا قادرة على تحجيم قوى الشر ، وأن السلام سينتصر لا محالة إنْ نشرنا قيم المحبة والمعرفة في المجتمعات ، وكما أن عقولا فلسفية كانت سببا مباشرا في نجاح الثورة الفرنسية عبر التنوير ، وهو الرأي المتفائل ذاته في عقائد الإشتراكيين الأوائل ، ونجده بوضوح عند ( كارل ماركس) ، لكنني أضيف هنا ،وبقوة، قيم المحبة التي تتفوق في طاقاتها على صنع السلام وفلسفة التنوير بأضعاف .

والعدوان في مفهومه العام سلوك مقصود يستهدف إلحاق الضرر أو الأذى بالغير وقد ينتج عنه أذى يصيب إنساناً أو حيواناً كما قد ينتج عنه تحطيم الأشياء أو الممتلكات .

ولا أجد فرقا كبيرا فيما ذهب إليه فروم فهو يقرّ بأن الظروف الخارجية كانت سببا بتكوين العدوانية وهي بالتالي خُلُق مكتسب ، أمّا قوله ان الإنسان يميل الى التخريب ابتداءً فذلك مردود عليه ، فكيف لنا أن نفسر رد الفعل لحماية النفس من خطر محدق بأنه عدوانية ؟ ، ولو أمعنا النظر في هذا المفهوم نجد إنه الدفاع عن النفس وإنْ كان بفعلٍ هجوميٍ ، فإن الفاعل يفضل ألف مرة أن يبتعد الخطر عنه ،أو أن يسر باتجاه آخر كي لا يضطر الى مهاجمته وألحاق الضرر به دفاعا عن نفسه .

ويصف فروم نفسه قولَ جماعة النظرية الغريزية البشرية (إن الحرب لها دواعيها في غرائز الإنسان العدوانية ) بأنه قول ساذج ، على إعتبار أن الحكومات كانت هي الدافع حينما تحدثت لشعوبها بأنها ستهاجم ، وإن عليها أن تحمي مقدساتها وحياتها، كما تحدثت عن الحريات والديمقراطية.

ثم يؤكد أن البهجة بالحرب لا تدوم الا إسبوعين أو أكثر قليلا ، لكنها تزول بعد ذلك وسيتعرض الناس للتهديد بالعقوبات من أجل أن يستمروا في الحرب،فلو كانت العدوانية من طبيعة الانسان لكانت الحرب تستجيب لمشاعره وتشبع غرائزه العدوانية .

ولي رأي أستند فيه الى ما ذكرنا في فصل محبة الله وقلت في حينها ،( أنني أدرك عظيم شرف الروح التي أودعها الله فينا حينما نسبها أليه بقوله ” من روحي ” فهي طاهرة في أصلها ، وإن كانت مخلوقة ، ومن هنا فإن المحبة فيها متأصلة على إعتبار أنها طاهرة طيبة ،وكل طيب طاهر مُحبٌ ومَحبوبٌ ) ، وكما هو معروف ياشهرزاد فإن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً في شيء واحد ، ووقت واحد، كالوجود والعدم، والحركة والسكون ،وهنا يمكننا القول: إن الطيبة والطهر لايمكن ان يجتمعان مع الشر والعدوانية كصفة أصيلة في أرواحنا التي هي مصدر العقل البشري ان لم تكن موطنه ، وبالتالي لايمكننا التسليم بأن العدوانية غريزة بشرية ، ولا يمكننا أن نؤمن بأن الإنسان ميّال للتخريب بطبعه على إعتبار أن العدوانية أداة جاهزة للاستخدام في عقولنا ، ومن ثم فهي خُلُقٌ مكتسب وليستْ فطرةً ، وكلُ مكتسب قابل للتغيير ، غير أن الصعوبة تكمن بإيجاد القناعة لدى العدواني الفاقد لأمنه الداخلي والمتمسك بقاعدة ( كل الناس يكرهونني فأنا أكرههم ) ، ولو قُدّرَ لنا أن نطبع في مخيلته عبارة ( ليس جميع الناس يكرهونك) ، وعلى أساس مبدأ المخالفة فإنه بذلك يوصل الى عقله الباطن عبارة (بعض الناس يحبونني) ، لا أتحدث هنا عن جبابرة العالم على مدى التاريخ فأولئك يجدون في العدوانية وسيلة مقنعة لفرض مزيد من الهيمنة والسيطرة وإتساع السلطان ، إنما أتحدث عن الطبقات الوسطى والفقيرة الذين تكونت لديهم العدوانية بسبب الإحساس بالظلم او التهميش ،والإقصاء والإحتقار ، نعيش مع هؤلاء في جميع المجتمعات ،ونصطدم كل يوم بعدد منهم في سوح العمل ،وبيوتات الجيران ،والأقارب والأمكان العامة ،وحتى دور العبادة ، تلك العدوانية المكتسبة بحاجة إلى الأحساس بالامن الداخلي وثقة بالنفس تعيد إليها مشاعر المحبة والتقدير ، وكما أن أفعالا وأقوالا وتصرفات قاسية – سواءً كانت في مرحلة الطفولة اوالمراهقة او الشباب – قد هوت بصاحبها الى دَرْك الحقد والكراهية ، وتجلت عنها روح العدوانية المكتسبة ، وصارت جزءاً من الإطار الفكري المظلم الذي يعيش به الفرد، فإن أفعالا وأقوالا وتصرفات حكيمة وطيبة تستطيع أن تعيد جزءا من الثقة بالنفس ،وإحساسا ببعض الأمن الداخلي ستكون مفتاحأ لذلك القلب المثقل بالأمراض النفسية ، ولست أدعي إن هذا التغيير سيكون أمرا يسيرا ، لكنني أتساءل : ماقيمة المحبة في قلوبنا إنْ كنّا لا نمنحها إلا لمن يحبنا؟ ، ماجدواها إنْ لم تكن قادرة عن زرع بذرة خير في أرض جرداء؟، ماالذي يميّز قلوبنا الطيبة عن القلوب الممتلئة بالكراهية إنْ لم تصنع الفارق وتبعث الامل فيمن يُرجى إصلاحه؟ ، الأمر ببساطة إننا نسعى من خلال المحبة التي تملأ وجداننا وتدفعنا دائما الى إسعاد الآخرين – كسبيل قيّم لإسعاد الذات – الى أن نوصل رسالة محبة الى العدواني مفادها ( إني لا أكرهك ولم أكن سببا في كراهيتك لي ) .

إننا بإستنهاض أسرار المحبة في قلوبنا لكل الناس قادرين على زرع بذرة الأمن الداخلي الأولى في غالبية العدوانيين ، وسكب جرعة من الثقة في دواخلهم المرهقة حد العياء مِن لَعبِ دور مَن وصل بهم الى حافة الهاوية في يوم من الأيام ، وحذارِ من أن يشعر العدواني بأن المحب الساعي لإصلاحه يهابه ،أو يريد أن يتجنب شره ، علينا أن نعرف ابتداءً إنْ القلوب المُحبة أكثر القلوب قوة وإعظمها إحساسا بالثقة والشجاعة ، نحن لا نخشى العدواني بل نريد إصلاحه ، ونكرر بصوت يطرق أذنيه ( أسامحك .. نسيتُ إساءتك لي .. عفا الله عمّا سلف ) .

يقول ليو روسكين : (إن الضعيف هو القاسي فلا يمكن إنتظار الرقة سوى من الشخص القوي ) .

وختاما نستطيع القول :إن مواجهة الكراهية بالعنف المضاد تُحقق للروح العدوانية المكتسبة غاياتها ، لكن مواجهتها بالمحبة تنتزع جذورها يوما بعد آخر حتى تتهاوى الى غير رجعة ، او تنطمر في أعماق النفوس ولا يوقظها إلا مارد شر كاسح ، وحينها ستكون دفاعية تعود الى مكامنها بزوال المسبب .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]