22 ديسمبر، 2024 2:18 م

من وحي شهريار وشهرزاد (16)

من وحي شهريار وشهرزاد (16)

المحبة في مواجهة العدوانية (الجزء الثاني )
شهرزاد :قصصت علينا ياشهريار قصة مؤثرة في المرة السابقة ،وهي تبعث الأمل في إمكانية إصلاح المزعجين ،وإنْ كانت مؤلمة في تفاصيلها ، لكن كيف لنا أن نميّز العدواني عن المزعج وهما يأخذان شكلا ظاهريا واحدا كما قلتَ أنت ؟

– نعم .. فالعدواني أو العدائي عبوس قنوط يجد سعادته في إيذاء الآخرين ايضا، لكن المزعج يكتفي بالمقالب والمواقف التي تثير حفيظة الناس من حوله وصولا الى إهتمامهم به ، أمّا العدواني فكاره لنفسه ابتداءً ويحمّل الناس – كل الناس- أسباب انطوائه وفشله في أمر ما ، والظلم الذي تعرض إليه في يوم ما ، والتهميش الذي يعاني منه وإنْ كان غير موجود أصلا ، هو يكره الناس جميعا ، ويشعر بفقدان الأمن الداخلي ، وضياع الثقة بالنفس ، وانحسار الآمال ، واضطراب الأحوال ، ولا يفسر قولا من الأقوال ،او فعلا من الأفعال إلا بنية السوء ،العدوانية لديه سجية ،وإلحاق الأذى الفعلي بالآخرين غاية غاياته ، هو يظن انه يبعد عن نفسه اذاهم – غير الموجود إلا في مخيلته – حينما يسبقهم بالهجوم ،والتنكيل والتهديد والوعيد، ويتعدى ذلك الى الشتم والضرب ،وسلب الحقوق المعنوية والمادية ،ففي ذلك مُسكّنٌ مسموم لأوجاعه الدائمة ، يهدئ من روعه لحين ، لكنه يزيد من حجم الكراهية لديه ،عنيف في الأحوال كلها حتى وهو يضحك ، يلتمس الهيبة والخوف في عيون الناس، ولا يدري أن الناس يتحاشون بطشه ولا يهابونه ، يجد سعادته المريضة في إحْزانِهم وإيلامهم ، يعتقد جازما انه بإلحاق الضرر بالآخرين ينتصر لذاته المقهورة ويحقق آماله المندثرة ،إطاره الفكري القديم يذكره دائما بأن “الناس، كل الناس ، مسؤولون عمّا لحق به من قهر وإذلال،وتهميش وظلم في يوم من الأيام”.

شهرزاد : حقا إن الفرق كبير .. لكن ماالذي وصل به إلى هذا الحجم من الكراهية والحقد ؟ ، هل كان الظلم الذي تعرض إليه يوما كافيا لهذا الوصف المرعب ؟

– كأنك غير مقتنعة بذلك وتشيرين الى طبيعة خَلقية لا صفة خُلقِية تقف وراء العدوانية ؟ ، حسنا.. دعينا نستعرض الآراء على عجالة لنعرف إنْ كانت العدوانية صفة مكتسبة أم طبيعة مولودة مع الإنسان ، ولو أخذنا ابتداءً ما يسمى بـ(النظرية الهيدروليكية) لكونراد لورانس الذي يدافع عن مفهوم : أن الشر هو التاريخ الطبيعي للعدوان ، وأن العدوان دوما وعفويا يولد مع الانسان ، وأن العدوانية تنمو باطّراد عندما لايكون هنالك مانع لها ، وعندما يفتح الطريق أمامها ، فإنها تندفع بذاتها خارجا ، أمّا عندما تكون المخارج ضعيفة جدا او معدومة، فسوف يكون الإنفجار لتلك العدوانية المتراكمة محتملا ، وإزاء ذلك لا يكون أمام الإنسان إلا بعض الوقت ليمارس أعمال العنف ، ذلك إن القدرة العدوانية في داخله قد تراكمت وإنفجرت .

إن لورانس يشبه الإنسان هنا يا شهرزاد بقِدْرِ الماء على النار يغلي ويغلي حتى تتولد قوة الإنفجار التي تهوي بالغطاء وتجعله يتراقص بوحشية كلما زاد الماء سخونة بسبب قوة ضغط البخار .

وأجد أن لورانس قد نال إعجاب الناس لأنه يمنحهم العذر حين ممارستهم للعدوانية ضد الآخرين فهم – بحسب لورانس- مجبرون على تلك العدوانية المتراكمة في صدورهم وهم غير مسؤولين عن الحالة التي خلقوا عليها .

أمّا نظرية محرض نشوب العدوان لفرويد وكذلك النظرية القديمة لمحرض الموت فهما يؤكدان على الدافع الغرائزي للعدوان ، وقد إفترض فرويد : أن كل إنسان وفي كل الخلايا المكونة من مادة حية ثمة محرضان للحياة والموت ، ومحرض الموت يعبر عن نفسه بالإنعطاف للخارج وهذا يعني التدمير العام ، او نحو الداخل وهذا يظهر كقوة لتحطيم الذات بالمرض أو الإنتحار،وعندما يكون مرتبطا بدافع جنسي ،فانه يقود الى مايسمى بالإنحراف الجنسي ، وهو محرض مولود مع الإنسان وليس محكوما بعوامل خارجية محيطة،وبالتالي فإن الإنسان أمام خيار وحيد يتمثل بتحطيم الآخرين او الموت .

وعامة ياشهرزاد فهنالك وجهتا نظر للعدوانية، الأولى : أن الإنسان بفطرته مخرب سيء وهذا أساس قيام الحروب، وعليه فإن الإنسان يجب أن يبقى تحت السيطرة لمنع عدوانيته ( الفطرية) .

والثانية : إن الانسان طيب بفطرته ويصير سيئا نتيجة للظروف الاجتماعية التي تحيط به واذا استطاع ان يغير تلك الظروف فهو قادر على تخفيف العدوانية والشر في نفسه او ان يزيلها تماما .

والرأي الثالث تبناه إيريش فروم وهو حل وسط بين الأمرين ، فهو يرى إن (الانسان ميّال للتخريب ، وأكثر شراسة من الحيوان والتاريخ البشري حافل بأعمال شنيعة لامثيل لها ، وأعمالِ تخريب خارجةٍ عن الوصف ، ومن وجهة النظر هذه فليس من حاجة أبدا للتقليل من قوة العدوانية ، لكنه لا يعتقد أن جذور هذه العدوانية تقع في الغرائز، وإنما في الشروط الخاصة التي يعيشها الإنسان) .

في المرة المقبلة سنرد على أصحاب الآراء الثلاثة لنؤكد ان العدوانية خلقٌ مكتسب لم يخلق في النفوس البشرية .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]