شهريار : أقررنا في حديثنا السابق بأن تحقيق العدالة هو آخر ما يصل اليه صاحبنا المسؤول الرحيم ونحن نتحدث هنا عن نفوس كبيرة رجحت لديها كفة النورانية مسبقا ، وامتلأت قلوبها بالعطاء ، وصارت الطيبة غذاؤها ، والرقة ديدنها ، والرحمة جوهرها ، وإنْ مايصيبها من التذكير بمواقف الإساءة والظلم لايعدو فعل حجر سريع يداعب سطح الماء قبل أن يغطس الى غير رجعة ، كأنه أثر ريشة تدغدغ شغاف القلب، وتداعب الطيبة الدائمة لتُشيّعَ تلك النفوس الكبيرة خطوات المتكبر اوالمتجبر او المرائي بنظرات الشفقة عليهم لاالخوف منهم ، وهذا سر الإبتسامة المرة المرتسمة على وجوه الطيبين في مثل تلك المواقف.
وقد علمتني الحياة دروسا بليغة مفادها أن النفوس الكبيرة وحدها تمتلك حرية الإختيار والتمييز بين الأحساس بالظلم وقول الحق وإنْ كان على حساب أصحابها ،وهي التي تُبعد وهن تعلق القلوب ببعضها عن تماسك فريق العمل ، والحصيلة إن النفوس الكبيرة وحدها القادرة على الفصل بين العلاقات الشخصية وازدواجية القرار في ميادين الحياة وسوح العمل .
شهرزاد : أتفق معك تماما فالسواد الاعظم من الناس يقدم معيار المحبة والبغض في التعامل مع الآخرين ،ووصف أفعالهم وأقوالهم ، لكن هل انتهت معركة الإنصاف والعدالة في قلب المسؤول الطيب ،وتداعت معانيها عند هذا الوصف ؟ ، واذا كانت القلوب الطيبة بوصفها قلوبا قوية غير قادرة على أرساء قواعد العدالة فمن إذاً ؟
شهريار : العدالة بوصفها (الحياديّة في إطلاق الأحكام على الآخرين مهما كانت مراتبهم) غاية الغايات في القلوب الطيبة ،لكنها تسير تحت جناح الرحمة بخطوات متثاقلة ،وإنّ لها فعلا عظيما في نفوسهم ، وإنها لتدب دبيب النار في حاويات الوقود حينما تحاكي الضمير ،أو الوجدان ، أو الذات الواعية للقيمة العليا التي تمثل مركز القلوب الحية ، ولكِ ان تتخيلي ياشهرزاد هول الآلام المتحققة من تلك المعادلة ، كل موقف إنصاف نجح فيه صاحبنا الطيب بخطوات متأنية للمحافظة على ذوات الطيبين والمخلصين ،وكل تغاضٍ عن سوء المتكبرين والمتجبرين والمرائين والكسالى ،وكل لجم عسير لسلطات موقع المسؤولية على أمل الإصلاح، إنها لمواقف متضادة تنجذب بقوة الى مركز القيمة العليا في القلب الكبير ، وتتصادم على دكة العدالة المتأخرة .
ولا يقتصر الأمر على المسؤول الطيب بل إن تلك الآلام تأخذ طريقها الى قلوب الفريقين بإيقاعات متباينة ، فالمخلصون والطيبون المترقبون في عتب دائم كلما التقت عيونهم عيونه -لا تلفظه الشفاه – ويرتسم في تفاصيل الإبتسامة المرة : متى العدالة ؟ .
وفريق الشر يعيش في موجة آلام أعظم من الجميع ،فتلك الغضبات المتلاحقات والمساوئ المفضوحة التي لا تُقابل بالضد الظاهر تَرتدت على أصحابها أضعافا مضاعفة ، تزيد من حيرتهم ،واحدهم لأهون عليه أن يرى ملك الموت من رؤية الإبتسامة المرة على وجوه الطيبين او صاحبنا المسؤول ، يتساءلون في صمت مطبق : ماسرهم ؟ ،ماالذي يخططون له ؟،يبدو إنهم يدبرون أمرا عظيما للرد علينا.. لايمكن أن يكون صمتهم بلا غاية! .
نعم ياشهرزاد ذلك الصمت لم يكن بلا غاية ، إنما هو آلم إنتظار الإصلاح ، أو نفاد رصيد الأعذار ، القلوب الطيبة والنفوس الكبيرة تسير معنا الى آخر النفق حيث أنوار العدالة التي ستقصم ظهر التجبر ، وتخفي معالم التكبر ،وتقطع وتين الرياء وتمحو آثار الكسل .
شهرزاد : ومتى ستكون ساعة الصفر ياترى .. طال إنتظارنا لها ؟
– ساعة الصفر لانتفاضة المحبة ضد قوى الشر وتحقيق العدالة يحددها الفريق الثاني من حيث لايعلم ، فكلما ركبت أصحابه موجة الغضب والخوف واضطربت أوداجهم ،وارتعدت فرائسهم ، وارتعشت قلوبهم ، وعجزوا عن تفسير صمت الطيبين ، وحدثتهم أنفسهم بمزيد من الاستغلال للمسؤول (المسكين) بزعمهم ، دنت تلك اللحظات ، حينها يجف النهر فقد طال انتظاره لدفعات محبة من نفوس تائبة مقرّة بذنبها ساعية الى إصلاح قلوبها ،تلك القلوب المريضة زادتها الطيبة قساوة والسماحة آلما ، إلا من رحم ربي ، فأودت بأصحابها الى جحيم العدالة ، حينها يمتلك المسؤول الطيب مفاتيح الشدة للمرة الأولى ليطلق كلمة الحق ، ويهوي بفريق الشر بالجملة ، ويرسم ابتسامة بلا مرارة على وجوه الطيبين ، تلك غضبة الحليم اذا غضب لارجعة فيها ولا فصال ،وأنها لامضى من السيف ، وأوقع من الزلزال العظيم ، ودعم الطيبين يمنحه مزيدا من الثبات، ويحقق معنى الإنتفاضة ، فهو يدرك في قرار نفسه أنهم صادقون في جميع الأوقات ، حين تقبلوا بعض الإنصاف في أول الطريق، وحينما وصلوا معه الى آخر نفق الأعذار ، ساهموا بمحبة في دق آخر مسمار بنعش الأشرار .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة