22 ديسمبر، 2024 2:18 م

من وحي شهريار وشهرزاد (11) حب بلا شروط

من وحي شهريار وشهرزاد (11) حب بلا شروط

أشك ياشهرزاد بأنك لا تعرفين :إننا جميعا نحب لكن القليل منّا لا يضع شروطا لإستمرار محبته ، فان إستعصى علينا تحقيقها ألقينا باللائمة على الآخرين ، ونسينا أننا لم نحبهم لذواتهم أبدا ، فقلوبنا تخفق على عجل للناس الطيبين ، ونسارع الى مد جسور المودة والثقة ، ونفرش لهم دروب الأمانة ، لكننا عامة نحمل شروطا مسبقة لتلك المحبة في عقلنا الباطن ،نحن لا نجهر بها ،لكن احتدام المواقف ،واختلاف الآراء والتصورات الذهنية تُظهر تلك الشروط عن غير قصد منا ، حينما نحب من حولنا تبعا لتوافق ملحوظ في الطباع ، وإنسجام عام في الأفكار ، فإننا نتفق في هذا الوصف للمحبة على بعض القيم العليا ، وشيء من المبادئ المثلى كالعدالة والإنصاف والكرامة والحق ، والأخلاق الرفيعة كالشجاعة والكرم وقول الصدق ، لكننا في الحالات كلها لا نجد تطابقا في أطرنا الفكرية ، ولأن المودة بُنيت على توافق عام فإنها لم تكن مَحبةً للذوات بعللها وإيجابياتها ، وذلك ما يجعلها عرضة للشروط المسبقة .

إن الحب غير المشروط هو رسالة بليغة الى المحبوبين بأهميتهم ،وقيمة ذواتهم وحرية إختيارهم ، وحينها لن يكون إختلاف وجهات النظر والأراء ،او الإمتناع عن تنفيذ أوامر إدارية او الإلتزام بإصول مجتمعية ، او تطبيق قواعد أسرية سببا لنضرب بعرض الحائط تلك المودة الذاتية .

يقول ستيفن آر كوفي :(عندما نحب الآخرين حبا صادقا دون شروط او قيود فإننا نساعدهم على الشعور بالأمن والأمان،ومعرفة حقيقة قيمتهم وهويتهم وتكاملهم والثقة بها ) .

حينما نحب الناس لذواتهم يا شهرزاد فإننا نكسر حاجز (الأنا ) في نفوسنا قبل نفوسهم ، ونمدهم بأسباب الإبداع وإظهار الطاقات الإيجابية ، لأننا وافقنا ابتداءً على حرية إختيارهم لوصل تلك المودة ، وتركنا لهم إرادة التعبير عنها ، لابما نتمناه ، إنما بما تجود به أنفسهم ومهاراتهم الذاتية .

وتتجلى معالم الحب المشروط في أماكن العمل ، وبشكل أكبر تحت سقوف المنازل حيث محبة الآباء والأمهات لأبنائهم وبناتهم ، ولنا في هذه الأخيرة شواهد ووقفات كثيرة ،سيطول فيها القول بوقتها ومكانها ، لكننا هنا سنضرب مثلا حيا عن حب غير مشروط في أحدى المؤسسات التي عملتُ فيها:

لي زميل مازال شابا فتيا يحمل من طاقات الإبداع الكثير ، وأني لأحبه لذاته ، وأثني على قدراته ، وأسعى جاهدا لتطويرها بمحبة وثقة متبادلة ،وهو بطبعه حاد المراس متعنت لرايه ، متمرد على واقعه ، لكنه مخلص في عمله ، مجتهد في تطوير ذاته ، عازم على تحسين أدائه ،وهو يخضع للمنطق أحيانا فيما يخص قناعاته الشخصية ، لكنه نادرا ما يقبل مني في شؤون الحياة وصية .

إعتاد ( النجار) على أن يتأخر عن موعد حضوره الى العمل، لكنه يجتهد بتعويض ما فاته من الوقت ، بينت له بمودة ،وفي أكثر من موقف ، أنّ تاخره عن العمل ليس فعلا محمودا ، لكنه مقتنع بأن الإلتزام في الوقت لا يعني الكثير مادام قادرا على العطاء الوفير .

ومع تكرار الموقف ،وإصراره على المجئ متاخرا أثار في نفسي مرارة الإنكار ، لكنني إستدركت سريعا محبتي لذاته ، وتركت له حرية الإختيار ، وحينما أحس بتقديري لقناعاته ، وأحترامي لإنجازاته ، زاد عطاؤه واتسعت آفاقه، وإنه ليؤدي من الواجبات والمهام ما يعجز عنه بقية زملائه ،وإنْ أتوا قبله بساعات .

مازال النجار يتاخر عن موعده، لكنه يشعر بالتقدير والمحبة ، فيزيد تألقا ومودة .

شهرزاد : لكن كيف لنا أن نختار وصف محبتنا للناس وهي كما تعلم سجية قلبية وليست عملية حسابية ؟ ، نحن نحب بعض الناس من غير أن نعرف سببا مباشرة لتك المحبة .

شهريار : ذلك لعمري سؤال خطير ، وجوابه بحاجة الى تفكير وتدبير :إنْ أحدنا ياشهرزاد في سلوكياته وأخلاقياته وإختياراته مرآة لذاته وما تتمحور حوله ، فإنْ كان مركز إنطلاقنا السعادة مثلا ،فاننا نبحث فيمن نجد مودة لهم في نفوسنا عمّا يشعرنا بالسعادة كالثناء او الجمال او الجاه او الشهرة ، وغيرها كثير من مظاهر السعادة المؤقتة التي لا تدوم بطبيعة الحال ، وهذا مايجعلها مودة منقطعة بلا فصال ، وكذا المتمحور حول المال فان نفسه تتوق لمن يكون سببا في زيادة ثروته ، وفي أية لحظة تتقاطع فيها المصالح تهوي تلك المودة الزائفة ، ولعل من أكثرالأمثلة شيوعا المتمحور حول ذاته ، وذلك غاية في الأنانية لايحب إلا نفسه، ويميل الى إنسان يحبه لذاته ( إنْ حصل على تلك المودة باعجوبة ) ، والمحب في هذه الحالة الفريدة لا يحتاج الى مودة مقابلة (من وجهة نظر الأناني) ، لكنه سرعان ما يخسر ذلك المُحب أيضا لأن الحب في أصله عطاء متبادل .

والمحاور التي يدور في فلكها الناس كثيرة لكنها جميعا لا تقترب من أصول المحبة الحقيقة إلا إذا كان المُحب متمحورا حول المبادئ القويمة ، وإن كانت تلك المبادئ تتغير تبعا للنظريات والمجتمعات لكنها عامة تتمسك بالفضيلة وتجافي الرذيلة ، وعلى فرض أن المبادئ القويمة متقاربة في كل مجتمع من المجتمعات،فإن المتمحور حولها في مجتمع ما يستطيع أن يبني على أساسها سلوكياته ،وينمي إطاره الفكري ،وقد عرفنا آنفا أن (أُطرنا الفكرية مرآة لذواتنا التي تحدد حرية إختيارنا) ، وحيث تمحورنا حول المبادئ القويمة ،وتطورت لدنيا السلوكيات الرصينة ،فان سجية القلب لا تختار إلا الذوات المفعمة بأنوار تلك المبادئ وإنْ عفرها غبار الزمن،وهي بحاجة الى من يوقد فيها فتيل الأصالة والإبداع ، تلك المبادئ ياشهرزاد تجعل للمحبة قواعد متينة لا تتأثر ببعض التقلبات والمواقف غير المحمودة ، فسرعان ما يعود المتمسك بها الى حيث كان ليجد يدنا ممدودة إليه بالعطاء والمودة ،نحبه لذاته فهي ذات تستحق الإحترام والتقدير، قائمة على ثوابت لا تتغير بتغيّر الأحوال وإنْ واجهت المصاعب والأهوال .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]