22 ديسمبر، 2024 2:35 م

من وحي شهريار وشهرزاد (10) الحب وثقافة الاعتذار

من وحي شهريار وشهرزاد (10) الحب وثقافة الاعتذار

قالت شهرزاد : هل تعتقد أن الإعتذار يخفف من آثر الصدمة حينما نخطئ بحق من نحب ؟

شهريار : بكل تاكيد فالإعتذار الصادق من إطلاقات المحبة التي تتعامل مع الجراح بقدرة عجيبة ، إنه أول جرعة لتسكين الألم تمنع خطرالجفاف عن نهر المودة .

وأجد أنّ الناس في صفة الإعتذار ثلاث ، أولهم الطيبون الحريصون على دوام المحبة ،وأولئك أفضلهم وأكثرهم صدقا ، هم الذين إذا اعتذروا غمروا قلوب الناس بأرق العبارات وأكثرها عمقا ، وهم يدركون أحقية من أخطأوا بحقه بنيل أعظم إحترام كما تعرض لأشد عبارات التنكيل ،او الأفعال الجارحة ،ولو بنظرة إزدراء في لحظة غضب ، هم من يقول أحدهم : أعتذر لك من أعماق قلبي فانا مخطئ ، لم يكن من حقي قول كذا او فعل كذا لقد أسأت إليك .. أعترف بذنبي فاقبل اعتذاري وسامحني ، وكلما كانت إساءتهم في وسط جمع من الناس ، حرصوا على الإعتذار في جمع مثله، وأنهم ليبذلون الغالي والنفيس ،ويتذللون بهامات منحنية في وضعها ، عالية بطبعها لقبول إعتذارهم ،وإرضاء أحبابهم من العوام والخواص.

أمّا الصنف الثاني فهم المراؤون الذين يخافون من فقدان منصب ، او ضياع مصلحة ، وهم لا يحملون مشاعر الإعتذار بين كلماتهم وتملأ وجوههم علامات الاضطراب ، وتتدفق من ملامحهم عبارات الإستهجان لاعتذارهم الهش ،هم الذين لا يمتلكون حكمة الصبر ، ويتذمرون من عدم قبول إعتذارهم من الوهلة الاولى، إنهم بكل بساطة لا يحملون مشاعر المحبة ليغدقوا بعبارات الإعتذار الصادق .

أمّا الصنف الثالث فمجبر على الإعتذار بعد ملامة الجميع ، والمصيبة كل المصيبة أنهم لا يعترفون في قرارة أنفسهم بالخطا ، تلك ( الأنا) المتعالية المتكبرة تمنعهم من الإعتراف بالذنب ، وتزيد من مرارة الإعتذار في قلوبهم ، والأهون على أحدهم الموت من أن يقول : أعتذر أنا مخطئ بحقك ، وهؤلاء أسرع إنفعالا واضطرابا من الصنف الثاني ،والمتفحص لأحدهم في تلك اللحظات يجد علامات الكراهية طاغية على ملامحهم ، ويود أحدهم أن ينهال بالضرب على من جاء يعتذر منه مجبرا ،وجوههم مصفرّة ، وأوداجهم منتفخة ، ونظراتهم محلقة كأنهم يودعون أرواحهم في لحظات النزع .

إننا لندرك صدق الإعتذار من نبرات الصوت قبل الكلمات ، ومن علامات الندامة قبل الإبتسامة ، ومن تواضع الطلّة قبل تبرير العلّة .

ومع هذا كله فإنني لا اريد أن أرمي بالثقل كله على المخطئ ، وأتناسى أن من بين الناس من لا يتقبل الإعتذار وإنْ بذلنا كل جهد صادق لتحقيق ذلك ، والذين لا يقبلون الإعتذار الصادق صنفان ، الأول إنسان لم تجد المحبة الى قلبه سبيلا ، فهو قاسي القلب تصدت نفسه المتعالية لإطلاقات المحبة على مدى سنوات ، وهو ذاته الصنف الثالث من المعتذرين من ذوي النفوس المتجبرة التي تجد الأعتذار ضعفا غير مبرر يشعرهم بالحرج حينما يعتذرون مجبرين كما ذكرنا آنفا ، وهم في الوقت ذاته يرفضون تقبل الإعتذار الصادق لأنهم ينظرون الى صاحبه نظرة دونية ، تلك ( الأنا المتعالية ) توهم صاحبها بانه فوق الكل ، وأن المساس بعرشه الواهن بقصد او بغيرهِ خطأ لا يمكن قبول الاعتذار عنه .

وأمّا الصنف الثاني ، فذلك الذي كثرت أخطاؤنا في حقه بينما شحت إطلاقات المحبة نحو قلبه ، حتى جف نهرها ، ومهما كان صدق الإعتذار من هؤلاء فانهم لا يجدون سببا عقليا او التماسا نفسيا لقبوله ، فان كثرةَ الطرق تفصم عُقد اللحام كما يقولون ، فما بالك يا شهرزاد ونحن نطرق بقساوة تلوة قساوة على قلوب أحبَتْنا وأنبتتْ شجرة طيبة تحمل ورود المواقف الجميلة ،والدعم والأمانة، والاحترام والثقة المتبادلة ، لكنها ذبلت حين انقطعت عنها مياه المحبة، وصارت قاسية بلا روح ، وحينها لن يكون للاعتذار إلا فعل المسمار في أخشاب صماء .

نحن نعتذر لنداوي الجراح فان زاد قيحها بضربات متلاحقة صار علاجها مستحيلا ، كما إننا نعتذر ابتداءً لنعترف بأن فعلنا ، أو قولنا كان جارحا ، ولايمت الى المحبة وأحوالها بصلة ، ولناخذ على أنفسنا عهدا بالإبتعاد عن مثيلاتها ، فإنْ صارت إعتذاراتنا أكثر وأكثر فذلك مؤشر على ضياع المحبة في قلوبنا ، وهو مايدركه المتعرض لقساوتنا المتكررة فلا يقبل الإعتذار .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]