18 ديسمبر، 2024 6:13 م

من هزارستون الى خورنوزان !.الثالثة

من هزارستون الى خورنوزان !.الثالثة

بعد عدة أيام من الهجوم على هزارستون فرض الجيش العراقي سيطرته الكاملة على المنطقة ومن ضمنها مقرنا والربايا الإيرانية ومقر حزب الباسوك بقيادة حاجي محمود ولم يعد لنا وجود يذكر هناك ، ونحن رفاق التنظيم المدني جرى توزيعنا على الافواج والمقرات ، وكان نصيبي مع الرفاق الشهيد أبو علي السماك ”عمر ” أبن مدينة الصويرة والدكتور صارم كاظم الجاسم ” ملكو ” أبن قرية بوشناوة في ريف مدينة بابل على ملاكات الفوج الخامس عشر في منطقة خورنوزان الواقع ضمن وادي عميق بين قطعين جبلين وممر ممشى بين مقر قيادة القاطع في منطقة ” كرجال ”والفوج التاسع في منطقة ” باني شهر ”. الفوج الخامس عشر ، كان موقعه مؤقتاً بعد أن أنسحب من مناطق تواجده دوكان وسهل شهرزور على أثر الاتفاق والتعاون العسكري بين الإتحاد الوطني الكردستاني ” أوك ” والنظام العراقي وتشكيلهم قوات مشتركة ضد مقاتلي الاحزاب العاملة في ساحة كردستان ، ولم يبقى لنا في تلك المناطق الا مفارز صغيرة ومختفية ومن أبناء المنطقة ، ولم يدوم هذا العرس طويلاً رغم التنازلات الكبيرة التي قدمها حزب الإتحاد الوطني الكردستاني الى أجهزة السلطة العراقية في إستهدافه للشيوعيين والقوى الكردية الآخرى ، وكانت جريمة بشتاشان خير دليل على الخسة والغدر ، وصرح مام جلال في يومها تصريحاً خطيراً أن صدام حسين حكم وليس خصم .

يتكون الفوج الخامس عشر من عدة سرايا وآمره الكادر العسكري المجرب ” حمه رشيد قرداغي ” كان مختفياً في قرى وأرياف شهرزور وقرداغ ودربندخان مع مفرزة صغيرة من المقاتلين فتولى شؤون إدارة الفوج المسؤول السياسي الدكتور أبو عادل والمسؤول الاداري أبو زاهر ، وكانت الخلافات والتكتلات داخل الفوج عامة بين الرفاق شعرنا بها من أول يوم وطأت قدمانا وادي موقع الفوج ومن تداعياته الارباك العام في الوضع السياسي والعسكري علاوة على رفاق الفوج خليط غير متجانس ، حيث رفاقنا الكرد ليس سهلة عليهم البقاء في المقرات فترة طويلة وهم أبناء المنطقة روحهم الحقيقية في المفارز والتجوال في القرى ، مما خلق هذا الملل تصادمات في الرؤى والمواقف وكثرة المماحكات .

يبدو ، وكما تبين لاحقاً وبوقت قريب لا يتعدى ثلاثة شهور ، أن نية السلطة في السيطرة على المنطقة بالكامل سلسلة جبل سورين الشريط الحدودي مع إيران ، وكانت الحكومة العراقية تعد لذلك منذ وقت ليس ببعيد ، وكنا نسمع من المستطرقين ومن المهربين ” الكرونجية ” ومن أهالي القرى ، لكننا لا نبالي لها ، ولهذا لم نضع حالات طواريء لها في مواجهتها أن وقعت !.

كان هناك تنسيق بين الفوج ١٥ للحزب الشيوعي العراقي وبين قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني فرع تنظيمات خانقين ” نوجة خانقين ” . وكان لهم مقر مجاور لنا بنفس وادي خورنوزان في الكمائن الليلية على قمة الجبل وضمن الدراسات العسكرية لو أراد الجيش أن يتقدم سوف يـأتي عبر تلك المنافذ ، لإنه سابقاً وقبل بدأ الحرب العراقية الإيرانية عام ١٩٨٠ ، كانت ربايا عسكرية للجيش العراقي ومحصنة بالمواضع والصخور والقتال والدفاع . تلك الربية العسكرية وضمن الاتفاق بين القوتين ، كانت من حصة مقاتلي الحزب الديمقراطي في نصب الكمين داخلها يومياً من الساعة العاشرة ليلاً الى السادسة صباحاً ، أما نحن كان موقعنا مكشوف في قمة الجبل وبين الصخور لايحميك شيئ أن وقع طارئاً ، وفي العلم العسكري موقع دفاع فاشل وهدف سهل للعدو . أما موقع الحزب الديمقراطي الكردستاني ” حدك ” موقع عسكري محصن ونظامي وهو القريب على منافذ تقدم الجيش العراقي والتصدي له ، أما موقعنا المكشوف يبعد تقريباً ألف متر وعلى مرتفع أعلى .

ذات ليلية قمرية مصحوبة بنسمات هواء منعشة تسلقنا أربعة رفاق الى قمة الجبل لنكمن في الراقم المتفق عليه أنا لطيف ، أبو زاهر ، الشهيد عمار من أهالي الدغارة مدينة الديوانية ، والشهيد قاسم من أهالي مدينة العمارة . في اللحظات الأولى التي تخندقنا بموقعنا أنتبهنا الى الربية العسكرية خالية من مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني وعللنا الأمر مع بعضنا ربما سيلتحقون متأخرين بعض الوقت ، لكنه الوقت طال ولا أحداً هناك .. بعد منتصف الليل الساعة الواحدة ليلاً وزع أبو زاهر وقت الحراسات طبعاً تضمنتها بعض التصنيفات السخرية بيننا عن تخلي مفرزة ” حدك ” في الالتحاق في الكمين بموقع مهم بمثابة بوابة الأمان لنا .

في الساعة الواحدة ليلاً ثلاثة رفاق خلدنا الى النوم وأستلم الحراسة أبو زاهر وبعد ساعة سأكون أنا بعده ، لكني لم أتمكن من النوم بقيت أتأمل النجوم في السماء الصافية وشريط ذكريات الأهل والأحبة وتسربت الى هواجسي قشعريرة قلقة ربما إيذاناً بإطلاق الصواريخ في تلك اللحظات شكل عندي هذا الهاجس . الساعة الثانية ليلاً أستلمت الحراسة من أبو زاهر ، تجاوزت قليلاً عن الموقع المحدد مباشرة طرق سمعي مع نسمات الهوى حديث قريب وصدى أصوات ، وعندما تفحصت المكان جيداً ، نحن مطوقين من قوات الجيش وربية حلفائنا التي تركوه في تلك الليلة معسكر بها الجيش يسرح ويمرح، رجعت حالاً الى الموقع وبلغت أبو زاهر ، وقد رآى بأم عينيه نحن مطوقين من كل الجهات الا منفذ واحد ربما تركوه لنا لسهولة الانسحاب وتجنب القتال ، فأمر أبو زاهر بالانسحاب ، وكان هذا عين العقل ، لو طلقة واحدة طلقت لكان الضحايا جسيمة مئة رفيق كانوا نائمين في عمق الوادي فاستغلنا عتمة الليل وإنسحبنا بأتجاه الاراضي الإيرانية وتحصنا في مواقع بعيدة عن متناول قوات الجيش . ولم يتعرض لنا الجيش في تلك ا لساعات المتأخرة من الليل ، في الصباح الباكر كنا في عمق وادي طويل وعميق على الحدود الإيرانية . وفي صباح اليوم نفسه نزل الجيش بقوة كبيرة مسنودة بصواريخ المدفعية الى مقراتنا وتجولوا بها مع الصحافة التلفزيونية ونقلها تلفزيون بغداد بصوت معلق غليظ إنها أوكار العملاء والخونة ، مما حز وجع في قلوبنا بتشويه صفحات التاريخ ، نحن كنا مناضلين وحاملين مشروع وطني كبير لتخليص العراق من الحروب والدكتاتورية . المعلومات التي توثقت لنا فيما بعد أن الجيش بدأ بالتقدم من الساعة السابعة مساءاً وعلى ثلاثة محاور . ” سيد صادق ، خورمال ، حلبجة ”.

في اليوم الثاني شنت قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني ” حدك ” وفي محاولة فاشلة وبمعزل عن قوات الحزب الشيوعي ولاحتى إعلامنا من أجل أتخاذ الاحتياطات هجوماً كبيراً على الربية التي تركوه قبل يوم ولم ينجح هجومهم في أستردادها وبعد قتال طويل وعنيف راحت ضحايا كبيرة من الطرفين ، لكن صوت إذاعة الحزب الديمقراطي كانت حماسية في إذاعة البيانات بإحتلال الربية وإبادة قوات الجيش بها ، لكن الحقيقة الجيش لم يتزعزع من موقع الربية رغم شراسة القتال . وفي تلك الليلة تعرضنا الى وابل وحمم من الصواريخ طوال الليل حيث فتت الصخور وقلعت الاشجار ونحن متنخدقين في القطوع والمغارات الجبلية . في اليوم الثاني من الليل دخلنا إيران وحملتنا عدد من السيارات بإتجاه مدينة ”مريوان” نزولاً الى مدينة ”دزلي” ومنها شكلنا مجاميع نزولاً من الجيل الى موقع مقر قيادة القاطع في منطقة ”كرجال”. وفي اليوم الثاني عقد إجتماع موسع حضره أيضاً قيادة الفوج السابع ”هورمان” بقيادة الشهيد علي كلاشنكوف . وبعد حديث مختصر ومبطن من المرحوم أحمد باني خيلاني وجهت لنا نحن الاربعة رفاق ” المفرزة ” عقوبات حزبية وعسكرية ، ولم تعطى لنا فرصة بالحديث وعلى أقل تقدير تثبيت بعض الوقائع ، ولم يسمح الوقت لتنفيذ العقوبات حيث إجتاح الجيش المنطقة بالكامل ، وأنسحبنا مع قيادة القاطع عبر المدن الإيرانية الى مناطق ”شرباجيير” والجميع سكت وممن حاول ينتقد موقفنا بعدم الاشباك مع قوات الجيش لو وقعت سهواً لدفعنا ضحايا كبيرة .

وعلى هامش الحدث وتداعياته ، في عام ٢٠٠٩ ألتقيت بالمرحوم قادر رشيد ”أبو شوان ” في العاصمة السويدية وقد تناول حدث هزارستون في كتابه ”بشتاشان بين والألم والصمت” . والذي رواه حول الانسحاب والكمين والمفرزة لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد والأسماء التي مستند عليه في روايته لم يكونوا في المنطقة ولا حتى من منتسبي الفوج ، وأحدهم كان أسم وهمي . في يومها كان قادر رشيد في إيران ورويت له ما حدث بالتفاصيل المملة وبالوقائع خدمة للتجربة وأنصافاً للتاريخ .

محمد السعدي