25 نوفمبر، 2024 10:15 م
Search
Close this search box.

من مذكراتي الليبية: كادت مقابلة الرئيس الكرواتي أن تسبب طردي من ليبيا

من مذكراتي الليبية: كادت مقابلة الرئيس الكرواتي أن تسبب طردي من ليبيا

في أغسطس عام 2003 دعاني الدكتور صالح ابراهيم، رئيس أكاديمية الدراسات العليا في طرابلس، للحضور الى مقر الأكاديمية حيث سيحل الرئيس الكرواتي الدكتور ستيبان ميسيتش ضيفاً عليها. ويتضمن البرنامج محاضرة للرئيس الكرواتي وحفل عشاء يقام على شرفه في مقر الأكاديمية الواقع بمنطقة جنزور. ( تربطني مع الدكتور صالح ابراهيم علاقة عمل طيبة، وهو خريج يوغسلافيا، وكنت متعاوناً مع كلية الأقتصاد بجامعة طرابلس “الفاتح سابقاً” يوم كان هو عميدها من أوائل التسعينيات، وبعدها تعاونت مع أكاديمية الدراسات العليا في طرابلس التي يرأسها الدكتور صالح، حيث درّست وأشرفت وناقشت رسائل علمية فيها).

وفي قاعة المسرح في الأكاديمية التي كانت تغص بالأساتذة الجامعيين وكبار المسؤولين الليبيين ألقى الرئيس ميسيتش محاضرة كرسها للحديث عن العلاقات ” التاريخية ” بين جمهورية كرواتيا والجماهيرية الليبية.!

لقد استفزتني عبارة “العلاقات التاريخية”…عن أي “تاريخية” يجري الحديث وكرواتيا تأسست عام 1991، وأوضح الرئيس عبارته بالقول بأن الرئيس تيتو كان كرواتياً.

(ومعلوماتي الشخصية التي لمستها ميدانياً عن الرجل الذي يطلق عليه اليوغسلاف تسمية هادم يوغيلافيا ومدمرها، وهو الذي أعترض معظم السياسيين اليوغسلاف على ترشيحة لرئاسة يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية، وذلك عندما وصل الدور لكرواتيا في رئاسة الدولة، لقناعتهم أن الرجل لديه مواقف انفصالية معروفة ضد نظام الرئيس تيتو.، وكان من العناصر المعادية المكشوفة والمتوجة بفكرة منظمة الأوستاش الكاثوليكية العنصرية. وحلاً للأزمة، في حينها، توسطت الترويكا الأوروبية في قبول ترشيحه على أن يؤدي اليمين الدستوري في الحفاظ على وحدة وسلامة جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية. وأثبتت الأحداث اللاحقة أن مسيستش قد حنث اليمين الدستوري ونفذ ما يريد، إذ أن أجهز على ذبح الدولة الاتحادية ليف علنا أما البرلمان الكرواتي ويصيح بأعلى صوته، أيها السادة أيها السادة لقد أنهيت واجبي ولم تعد هناك دولة أسمها جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية).

وحال انتهاء كلمة الرئيس فتح باب الاستفسار والنقاش لجمهور الحضور، فكانت معظم الأسئلة مجاملاتية تدور حول أفق التعاون الليبي الكرواتي ومستقبل العلاقات العربية الكرواتية. رفعت يدي للمساهمة في الحديث، فأستلمت لاقط الصوت، واستأذنت من الحاضرين بأن أتحدث مع سيادة الرئيس باللغة الكرواتية فقلت له: فخامة الرئيس ذكرت في كلمتكم العلاقات التاريخية بين كرواتيا وليبيا، بأنها ترجع الى عهد الرئيس جوزيف بروز تيتو، في حين كنتم شخصياً من معارضي نظام تيتو وأشتركتم في المظاهرات ضده عام 1971 والتي أطلق عليها تسمية الربيع الكرواتي، وحسب معلوماتي مثلتم أمام القضاء اليوغسلافي وحكم عليكم بالسجن لمدة سنة واحدة. قاطعني الرئيس قائلاً: شكرا لكم تفضل بالجلوس لنلتقي بعد الانتهاء من بقية الأسئلة. وفي النهاية وعند الخروج من القاعة توجه الرئيس نحوي وضمني إليه وهو قد أمسك بي من خاصرتي (كما واضح في الصورة) وخرجنا نتبادل الحديث في حديقة الأكاديمية الواسعة.

الرئيس ميسيتش: دكتور جعفر، أين أنهيت دراستك العليا ومتى؟

جعفر: أنهيت الماجستير والدكتوراه في كلية الحقوق – جامعة بلغراد من بداية عام 1981 الى نهاية عام 1990. حوالي 10 سنوات.

الرئيس ميسيتش (مازحاً): حضرة البروفسور تحتاج عشر سنوات غسيل مخ لكي تعرف الحقائق كما هي.

جعفر: سيادة الرئيس هل ترغب أن نتكلم بصراحة أم كلام مجاملات؟

الرئيس ميسيتش: لا لا ، أريد أن تتكلم معي بصراحة، لا بصفتي رئيس دولة بل بصفتنا كأصدقاء.

جعفر: سيادة الرئيس أثناء أحداث عام 1990 أطلق عليك اليوغسلاف تسمية (مدمر يوغسلافيا)…

الرئيس ميسيتش (مقاطعاً): ميلوشيفيتش هو مدمر يوغسلافيا.

جعفر: ولكننا نسمع ونرى وجود أدلة مادية ملموسه تثبت بأن جمهورية كرواتيا الحالية هي امتداد لدولة كرواتيا المستقلة ( NDH ) التي أقيمت تحت حرابه المحتل النازي عام 1941.

الرئيس ميسيتس: ما هو الدليل المادي والملموس حول العلاقة بين جمهورية كرواتيا الحالية ودولة كرواتيا المستقلة التي أقيمت عام 1941؟

جعفر: العلم (رقعة الشطرنج) نفسه علم دولة آنته بافليتش، النشيد الوطني (يا وطني الجميل)، وشعار النبالة. أليست هذه أدلة مادية كافية؟

الرئيس ميسيتش: لا أنتم على خطأ لعدم علمكم الحقائق فتلك كلها من تراث الشعب استخدمها الشعب الكرواتي قبل 2000 سنة.

جعفر: وهل كانت كرواتيا دولة قبل ألفي عام؟

الرئيس ميسيتش: نعم سترى ذلك بعينك؟

كان رئيس الأكاديمية الدكتور صالح ابراهيم يتخطى خلفنا (واضح في الصورة المرفقة)، ومسؤولون كبار ليبيون ينتظرون توجه الرئيس الى الحديقة الشرقية للأكاديمية حيث خصص المكان لتناول العشاء واقامة حفل موسيقي غنائي أعد إعداداً ممتازاً يتضمن تقديم موسيقى وأغاني شعبية كرواتية من قبل طلاب موهوبين ليبيين أنهوا دراستهم في جامعات كرواتية.

وأثناء التجوال والحديث مع الرئيس وصلت لي شخصياً اشارة من الدكتور صالح ابراهيم واشارة أخرى مماثلة من السيد مدير المراسم بالخارجية الليبية يطلبان مني أن أنهي الحديث والتوجه الى ساحة الحفل، فأجبتهم بالاشارة أيضا بما يفيد أن قرار انهاء الحديث ليس بيدي.

استغرق الحديث مع الرئيس أكثر من نصف ساعة بعدها توجه الى ساحة الاحتفال فكنت أسير برفقته الى أن وصلنا قرب مكان الحفل سارع رئيس التشريفات لمسايرته، فودعت الرئيس وانسحبت وأخذت مكاني على طاولة بعيدة نسبياًعن خشبة المسرح.

بعد يومين من ها اللقاء تم استدعائي الى مبنى وزارة الخارجية لغرض المثول أمام لجنة تحقيقية! ذهبت وأنا أضرب أخماساً باسداس، تحقيق حول أي شيء؟ وصلت في الموعد المحدد الى مبنى الوزارة فقادني موظف الاستعلامات الى غرفة في الطابق الأرضي فيها ثلاثة أشخاص من ضمنهم مدير المراسم ولم يكن متصدراً للجلسة في حين كان رجل ضخم القامة يرتدي نظارات سوداء يجلس خلف الطاولة أوحى لي مظهره بأنه ضابط كبير في الأمن الخارجي (المخابرات) والذي بدأ الحديث معي قائلاُ:

دكتور نحن نكن لك كامل التقدير والاحترام كرجل عربي أكاديمي وكعراقي بوجه خاص، تعمل في الجماهيرية العظمى، كيف سمحت لنفسك بتوجيه عبارات مهينة الى ضيف هو رئيس دولة صديقة حل ضيفاً على قائد الثورة والشعب الليبي؟

قلت له: أستاذنا الكريم أنا استغرب مما ذكرت، لقد سألت وحاورت فخامة الرئيس الكرواتي بأدب جم وكان سعيداً بما طرحته عليه، وهو الذي طلبني بعد انتهاء محاضرته وقادني على انفراد الى حديقة الأكاديمية وأطال الحديث معي وليس العكس.

تدخل رئيس دائرة المراسم وتكلم كلاماً لطيفاً بحقي، وكذلك تحدث الشخص الثالث كلاماً جميلاً مماثلاً ( ربما سبب التعاطف معي لأني عراقي وبسبب أوضاع بلادي التي تعرضت للغزو في تلك السنة). وعاد رجل المخابرات الى الحديث حيث قال بأنهم وقعوا في شك حول حصول تجاوز وخرق للقواعد البروتوكولية مع ضيفنا الكبير. وأستفسرت منهم فيما إذا كانت هناك شكوى ضدي من السيد سفير جمهورية كرواتيا في طرابلس أو أي جهة أخرى؟ فقالوا لا توجد أي شكوى ولكننا استدعيناك للاستطلاع فقط .

تم تقديم الشكر لي على حضوري ولكن أردف رجل المخابرات قائلاً: الى الآن الحمد لله لا توجد مشكلة ولربما نستدعيك مرة أخرى في غضون الأسبوعين القادمين. ودعت الحضور وغادرت مبنى الوزارة.

وأنا أقود سيارتي عائداً الى مستقري بمدينة الزاوية شعرت بأن رأسي منفوخ بمشكلة ليست بسيطة ولربما تؤدي الى إلغاء عقد عملي وعقد عمل الدكتورة زوجتي والطرد من ليبيا.

بعد أسبوع من اللقاء أي في أوائل سبتمبر أتصل معي هاتفياً سعادة سفير جمهورية كرواتيا السيد بيتر ليوبيتشيتش وأخبرني بوصول طرد كبير بعثه لي فخامة الرئيس ميسيتش. قلت له سأكون بعد الظهر عندكم لاستلام الطرد.

يا لها من فرحة عظيمة أزالت عني هماً وقلقاً جسيماً، وحال غلقي الهاتف شرعت بكتابة مقالي الأسبوعي على الصفحة الرئيسية (الغلاف الثاني) في صحيفة الجماهيرية وتحت زاويتي ( على سياج السياسة ) حيث صغت المقال بأسلوب مبين يوضح رضا وسرور الرئيس بطروحاتي أثناء لقائي معه قبل أسبوع متوجاً ذلك بوصول هديته لي.

دهبت لمقر السفارة الكرواتية الواقع في برج رقم 2 من أبراج ذات العماد وأستلمت الطرد وهو عبارة عن كارتونة كبيرة تضم 15 كتاباً ضخماً كلها تتحدث عن تاريخ الشعب الكرواتي. ورجعت الى البيت وعدلت المقال على ضوء الموجودات التي ضمها الطرد (الهدية) ولم أرسل للجريدة ما كتبته كعادتي بالبريد الألكتروني وإنما ذهبت شخصياً الى مقر الصحيفة في طرابلس (وكان يوم أحد) وسلمته باليد الى رئيس التحرير الأستاذ القدير عبد الرزاق الداهش، الرجل الفاضل والخلوق الذي يعجز اللسان عن وصف طيبته ودماثة أخلاقه، وهو صحفي مقتدر وصاحب قلم ذهبي مميز. تكلمت مع الأستاذ الداهش بشأن المصيبة التي حصلت معي، وبكل تفاصيلها وبشكل مكشوف، وطلبت منه ضرورة أن ينشر المقال بعد غد الثلاثاء ويقدمه على بقية مقالاتي ( غالباً ما كنت أسلم للصحيفة بضع مقالات مقدماً تكون رصيد يحفظ عند سكرتارية التحرير)، وجرى لي ما طلبت حيث نشر المقال في الموعد المطلوب على صفحة الغلاف بزاويتي (زاوية على سياج السياسة التي تظهر كل يوم ثلاثاء) وكان السبب في غلق الموضوع نهائياً..

فرجت الأزمة ولم يتصل بي أحد بعد نشر المقال.

لابد لي من أن أذكر بأن هدية الرئيس (الطرد) قد أنقذني من الموقف المحرج الذي كنت فيه ولكن من جهة أخرى أعتبر موجودات الطرد تأكيداً لأفكاري التي واجهت بها الرئيس. فالمراجع التي وصلتني جميعاً تم تأليفها حديثاً وبعد الانفصال، بعد عام 1991 وكلها تتحدث عن تاريخ الشعب الكرواتي ولا يوجد كتاب واحد عن تاريخ كرواتيا (كدولة). وبأعتباري باحثاً أكاديمياً متخصصاً في شؤون منطقة البلقان فالفرق عندي كبير جداً بين (تاريخ كرواتيا) وبين (تاريخ الشعب الكرواتي) . وعلى سبيل المثال للتوضيح أقول: من الممكن أن أكتب كتاباً عن تاريخ الشعب الكردي و لكن من الوهم أن أكتب كتاباً حول تاريخ الدولة الكردية التي لم تولد قط مع احترامي لجمهورية مهاباد التي ولدت ميته بسبب مواقف جوزيف ستالين والتوازنات الدولية التي سادت خلال الحرب العالمية الثانية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات