أستاذ العلوم السياسية المتقاعد- جامعة الزاوية – ليبيا
في أحد أيام صيف عام 1998 توجهت من مقر اقامتي في مدينة الزاوية الليبية الى العاصمة طرابلس لمراجعة (بروفة) كتابي (في الفلسفة السياسية) الذي تولت طبعه ونشره دار النخلة التي يمتلكها صديقنا الدكتور مصطفى محمد بديوي.
كأن في حينها الدكتور بديوي أميناً للمكتبة القومية التي تتخذ من قصر الشعب مقر لها. وجدت في غرفة أمين المكتبة شخصاً متوسط القامة يرتدي قميصاً بنصف كُم. عرَّفنا على بعض الدكتور مصطفى الذي قال لي: أقدم لك الأستاذ عبد الله الحجازي، وقال له: أقدم لك الدكتور جعفر من العراق.
ومن سياق الحديث بين الأستاذ عبد الله والدكتور مصطفى عرفت بأن حالة الرجل تشبه حالتي فهو يراجع بشأن كتاب له صادر عن دار النخلة. وبالفعل تأكدت من ذلك عندما كتب إسمي الكامل على نسخة من كتابه الصادر عن دار النخلة بعنوان ( التفكير ما فوق الحجاب الحاجز ) وقدمه لي مع إهداء جميل ومعبر بخط يده. وقد لفت نظري بأن الأستاذ عبد الله كتب إسمي الكامل في الإهداء ( جعفر عبد المهدي صاحب )، وأنا لا أعرفه من قبل، وعندما قدمني له الدكتور مصطفى قال له ( دكتور جعفر من العراق) فكيف عرف إسمي الثلاثي؟
سألته: أستاذ عبد الله، ربما تخونني الذاكرة، هل تقابلنا من قبل؟
قال: لا ولكني كنت ولازلت متابعاً لزاويتك الأسبوعية في صحيفة الجماهيرية وأنت تكتب بشكل رائع عن منطقة البلقان المشتعلة الى يومنا هذا وصورتك موجودة في صدر كل مقال.
وضعت كتابه، وهو من الحجم الصغير، في حقيبتي، وكان تخميني أنه يحتوي على قصة قصيرة أو خواطر أدبية لمعرفتي أن دار النخلة مهتمة بنشر الأنتاجات الأدبية الثقافية.
بعد رجوعي للبيت فتحت الكتاب لقراءته فكانت المفاجئة، أنه عبد الله الحجازي أحد أهم أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذين أسقطوا حكم الملك إدريس السنوسي عام 1969. وقلت أهم الضباط الأحرار لأنه كان الضابط المكلف في توزيع كلمة السر (القدس) الخاصة في قيام الثورة وساعة الصفر.
وحسبما جاء في كتابه، أنه كان في بيته 31/8/1969، أخبرته أمه بأن شخصاً طويل القامة يرتدي نظارات سوداء يطلبه على باب البيت، ويقول: عندما خرجت فإذا به معمر، أدخلته الى غرفة الضيوف (المربوعة) فأعطاني كلمة السر (القدس) وأبلغني بساعة الصفر، وقال عليك أن تذهب لتبلغ الضباط أعضاء التنظيم في مصراتة وطرابلس والزاوية وبقية المدن. فقمت بالواجب الذي كلفت به وتم كل شيء ونجحت الثورة في 1 سبتمبر 1969.
هذه أول صدمة صدمت بها وأنا أقرأ أولى صفحات الكتاب، فقد ذكر أسم القذافي الأول (معمر) دون أن يقول قائد الثورة أو العقيد أو أي صفة أخرى (كلامه هذا عام 1998 والقذافي كان الحاكم الآمر الناهي في ليبيا)، والملاحظة الثانية شاهدت الرجل بسيطا وهادئاًًومنواضعاً في هندامه وجلوسه وحديثه.
قرأت كامل الكتيب في غضون ربع ساعة من الوقت. وملخص ما جاء فيه:
1- أنه أول من علم بساعة قيام الثورة، وبذلك يكون حتماً أول الرجال المساهمين فيها.
2- بعد قيام الثورة أخذ عبد الله يشعر بأن الأرض تدور بالمقلوب، وأنه يرى الناس تسير في الشوارع على رؤوسها وأرجلهم الى الأعلى، وأحياناً يتصور نفسه وكأنه مرمي في ردهة مجانين، فتارة يتصور نفسه وحده العاقل وتارة أخرى يتشكك فيقول لعل المجانين عقلاء وهو المجنون؟. وملخص قوله باختصار شديد ( أن عبد الله الحجازي أول ثاني أثنين ممن يعلم بساعة صفر الثورة ولكنه بعد قيام الثورة ونجاحها أصبح غريباً عن الثورة وحلَّ محله مدعو البطولات الكاذبة من جبناء القوم، والمنافقون، والدجالون والدخلاء على الثورة من أشباه الرجال).
3- كان عبد الله الحجازي يتذمر نتيجة لتخبط المسيرة الثورية في البلاد وهو يعتقد بأنهم ( أي الضباط الأحرار) قد قدموا أرواحهم مشاريع تضحية من أجل نجاح الثورة، وعندما حققت الثورة نجاحها ومسكت شؤون الدولة كان على الثوار أن يضعوا الثورة على سكة الدولة وينتهي دور الثورة والثوار.
4- يبدو أن دوي النفاق الضخم لنشاط اللصيقين بالثورة بعد نجاحها، وأدعياء الثورية، كان قوياً وغير قابل على تقبل طروحات عبد الله الحجازي مما جعل الرجل ينسحب عن الساحة السياسية ليعيش خارج اللعبة محترماً لنفسه ومحافظاً على سلامة رقبته.
وفي رأيي، أنا كاتب هذه السطور، أن عبد الله الحجازي هو الرجل الثاني في تنظيم الضباط الأحرار لأنه الرجل الذي لعب دور المفتاح الرئيسي في فتح طريق الثورة. ولا يمكن أن نعتبره مجرد مراسلاً عند ضابط مغامر يقود ثورة. ولو كان عبد الله الحجازي مهزوزاً أو انتهازياً جباناً لوشى بالضباط الأحرار ليحصل على أرقى مكافئة وأسمى الأوسمة الملكية، ولكن تنفيذه الواجب المحوري في قيام الثورة يشير الى شجاعته وإيمانه في العمل الذي يقوم به إيماناً مطلقاً. هذا من جهة ومن جهة أخرى ان دوره المناط به يدل على موقعه المرموق بين رفاقه الثوار ورئاسة التنظيم.
من كل ما تقدم يظهر بأن عبد الله الحجازي كان مطلعاً على تفاصيل “فلسفة” الثورة، وحسب تحليلي الشخصي يبدو وجود فكرة القيام بالثورة وبعد نجاحها وتثبيتها يتم وضعها على سكة الدولة أي بعبارة أدق تسليمها الى سلطة مدنية تقود البلاد.
لا أعلم مصير عبد الله الحجازي وأتمنى أن يكون على قيد الحياة وبصحة وعافية لمعرفة السر من منبعه. وتقع مهمة البحث والاستقصاء على عاتق الباحثين الليبيين وخصوصا المهتمين بالشؤون العسكرية والتاريخية الليبية ليتم سؤاله عن هذه النقطة الجوهرية:
هل كانت فكرة الثوار أن يتم تسليم السلطة للمدنيين بعد نجاح الثورة وتثبيت أركانها؟ أم أن الثورة تقوم كي يبقى شعار (الى الأمام والكفاح الثوري مستمر)؟.
وختاماً أقول أن طبع ونشر كتاب ( التفكير ما فوق الحجاب الحاجز ) يعد مجازفة كبيرة، مع عجبي كيف وافقت على طبعه لجنة الرقابة على المطبوعات؟
وبصراحة وثقة تامة لو حصل ما تمناه عبد الله الحجازي لأنتقلت البلاد من دكتاتورية العسكر الى دولة ديمقراطية مدنية مقامة على أسس رصينة، عند ذاك تصبح ليبيا رمزا لدولة مدنية متحضرة تقدم النموذج لنظام حكم متحضر