عندما كنّا تدريسيّين في قسم اللغات الاوربية بكليّة الاداب في جامعة بغداد في سبعينيات القرن العشرين , كنّا نحلم ( نعم نحلم!) ان ننفصل عن الكلية المذكورة , ونرجع الى كليّة اللغات السابقة , التي ألغوها و دمجوها مع كليّة الاداب حينئذ بقرار ارتجالي بعيد عن الموضوعية العلمية , أقول ( كنّا نحلم) ,لاننا كنّا نشعر , ان قسم اللغات الاوربية لا يمنحنا حريّة الانطلاق والتطور اللاحق لفروعنا , اذ كان فرع اللغة الانكليزية هو المسيطر , ونحن , فروع اللغات الفرنسية والالمانية والروسية والاسبانية (تابعين!) له ليس الا , او كما علّق أحد الزملاء مرة – نحن (ملحق مجاني !) لقسم اللغة الانكليزية , ولهذا كنّا ( نحلم ) بالخروج من تبعيّة (لغة الجنرال مود ) كما قلت لهم ضاحكا مرة في احدى اجتماعات القسم (بالشقه وغلّ ايدك ) حسب مثلنا العراقي العتيد , اذ عبثا كنّا نحاول ان نقنع التدريسيين في فرع اللغة الانكليزية , ان اللغات كافة وتدريّسها ودراستها مهمّة لمسيرة تطور بلدنا وثقافتنا الوطنية , وانه لا توجد لغة أعلى او أدنى في تسلسل تلك اللغات , ولكن بلا جدوى , بل ان فروعنا اقترحت مرّة ( من اجل توسيع مدارك الطلبة وتعريفهم باسس الاداب الانكليزية و الفرنسية والالمانية والاسبانية والروسية ونحن في قسم واحد اسمه قسم اللغات الاوربيةوفي كليّة واحدة اسمها كليّة الاداب ! ) , اقترحنا تدريس مادة (الادب العالمي)في قسم اللغات الاوربية لفصل دراسي واحد في الصف الثالث والرابع باللغة العربية و بمعدل ساعتين بالاسبوع ليس الا في كل فروع تلك اللغات, مادة تتناول بايجاز المعالم الاساسية لتلك الآداب واهم اعلامها , فاقترحوا في فرع اللغة الانكليزية عندئذ ان نقدم لهم المادة كاملة وجاهزة , وكانت متبلورة بالنسبة لفروعنا الفرنسية والالمانية والاسبانية والروسية وباللغة العربية , وبعد تقديمنا للمواد ,فانهم سيقومون بترجمتها و تدريسها باللغة الانكليزية في فرعهم , وقد قلت لأحد التدريسسن آنذاك , انه يلفظ حتى اسم دستويفسكي بشكل غير صحيح , فكيف يمكن له ان يقوم بتدريس أدبه وفلسفته ويشرح مكانته في الادب الروسي و العالمي , علما انه كان مختصا بقواعد الجملة الانكليزية , ولا علاقة له بتاتا بآداب فرنسا و المانيا واسبانيا وروسيا , ولم يسمع حتى ببعض أعلام تلك الآداب , وكاد هذا المقترح العلمي المهم ان يتلاشى نتيجة لموقف فرع اللغة الانجليزية , وقد (أنقذ!) هذه الخطوة العلمية آنذاك عميد كليّة الاداب , واقترح – كحل وسط – ادخال مادة ( الادب العالمي ) ضمن مناهج قسم اللغة العربية في كليّة الآداب , باعتبار ان لغة التدريس في ذلك القسم هي العربية , وهذا ما حدث فعلا …
استمر الوضع بهذا الشكل غير الطبيعي الى عام 1987 , حيث صدر ألامر الوزاري باعادة كليّة اللغات ( بعد التي واللتيا طبعا , ولا مجال هنا للكلام عن ذلك !), وهكذا انتقلنا الى كليّة اللغات , بيتنا الطبيعي كما أسمينا تلك الكليّة عندئذ , واصبح لكل لغة من اللغات قسم مستقل خاص بتلك اللغة , وهو الشئالاكاديمي و الموضوعي والصحيح , وكانت هناك في بداية مسيرة تلك الكليّة اقسام للغّات الانكليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية والروسية والتركية والعبرية والفارسية , واضيفت اليها بالتدريج أقسام اللغات الايطالية والكردية والسريانية , وهكذا اصبحت كلية اللغات تضمّ ( 11) قسما علميا متكاملاباساتذته ومكتبته وخططه العلمية من دراسات اولية وعليا…الخ .
الان , وقد مضى على عودة كليّة اللغات ( 36 ) سنة بالتمام والكمال , وبعد ان اثبتت اهميتها و جدارتها في الحياة العلمية والثقافية بالعراق , بدأ بعض الزملاء بالكلام عن الانتقال الى مرحلة لاحقة أعلى , وهي ان تتحول كليّةاللغات هذه الى جامعة اللغات , جامعة يمكن ان تضمّ (11) كليّة باكملها , وهكذا يكون فيها كليّة اللغة الانكليزية وآدابها , وكلية اللغة الفرنسية وآدابها , وكلية اللغة الالمانية وآدابها , وكلية اللغة الروسية وآدابها , وكلية اللغة الاسبانية وآدابها , وكلية اللغة الايطالية وآدابها , وكلية اللغة التركية وآدابها , وكلية اللغة العبرية وآدابها , وكلية اللغة الفارسية وآدابها , وكلية اللغة الكردية وآدابها , وكلية اللغة السريانية وآدابها , وسيكون في كل كلية من تلك الكليات اقسام علمية خاصة بتلك اللغة وتاريخها , وآدابها , وحضارتها , والترجمة منها الى العربية , ومن العربية اليها , واقسام علمية اخرى مساعدة لتعميق الدراسات اللغوية , و ستكون هذه الجامعة مركزا حيويا ضروريا للحوار بين مجتمعنا و الحضارات الاخرى وبلغات تلك الحضارات , اذ ان العلوم كافة تستخدم اللغات للتعبير عن نفسها , اي ان اللغات ضرورية لحياة العلوم وازدهارها , ولهذا يجب رعاية اللغات من اجل رعاية كل العلوم الاخرى .
قال صاحبي المتحمّس لتحويل كلية اللغات في جامعة بغداد الى جامعة اللغاتفي بغداد , ان الافكار مثل البذور , نزرعها في التربة الصالحة و نسقيها ونرعاها , فتبدأ بالنمو ,ثم تقف بشموخ على الارض وتمنحنا الثمار بعدئذ , فقلنا له – ولكن التربة الان غير صالحة اصلا لزراعة هذه الفكرة , اضافة الى أزمة (الجفاف !!!) , التي تخنق الزرع والضرع في بلاد (الرافدين !!!), فقال – مع ذلك زرعوا فأكلنا , ويجب ان نزرع ليأكلون , فقلنا له – هذه فكرة كبيرة وتحتاج الى ارض فسيحة وجهود هائلة , فقال – طريق بالف ميل يبدأ بخطوة واحدة …