18 ديسمبر، 2024 4:51 م

من عامل بناء إلى أقوى شخصية عسكرية في الشرق الأوسط…. قصة قاسم سليماني

من عامل بناء إلى أقوى شخصية عسكرية في الشرق الأوسط…. قصة قاسم سليماني

لوائاً في الحرس الثوري الإسلامي, قائداً لفيلق القدس في إيران, وفيلق البدر في العراق, دبلوماسي, خبير استراتيجي, مقاتل ميداني, سياسي, رجل استخباراتي, مستشار عسكري, ساعد في تشكيل وتدريب وتسليح عديد من القوات العسكرية في الشرق الأوسط, منه جيش المهدي والحشد شعبي في العراق, الحوثيين في اليمن, حزب الله في لبنان, فرقة الفاطميون في أفغانستان, الجيش السوري في سوريا, وحركة الحماس في فلسطين. إنه قاسم سليماني, الشخصية “الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط ” و “رجل المهمات الصعبة”. لا يوجد له مثيل حتى في الروايات خيالية.
ولد عام 1957 في قرية (قنات ملك) بمدينة رابور تابعة لمحافظة كرمان شرقي إيران (وهي منطقة جبلية يبتعد 800 كم عن طهران), داخل أسرةٍ مزارعةٍ فقيرة, مكونة من سبع أفراد, والده حسان سليماني كان مديوناً للحكومة الشاه آنذاك لإستلامه قطعة أرض كقرض, إلا أنه عجز عن تسديده, فأصبح مهدداً بالسجن. أضطر عنده قاسم ترك الثانوية بعمر13 سنة والبحث عن عمل لإنقاذ والده من هذه الورطة. فذهب إلى مدينة كرمان وأشتغل عاملاً للبناء هناك حتى أستطاع أن يجمع ما يكفي من المال للرجوع إلى المنزل, ولكن الفوضى قد عم هناك ونسي ما مضى من الديون. عاد بعدها سليماني إلى إكمال دراسته الثانوية, وبعد تخرجه منها, أشتغل فنياً في دائرة الماء بمدينة كرمان عام 1975. كان يحب قضايا العسكرية وما يتعلق بها حسب قوله, وأنه في أوقات فراغه كان يتدرب في صالات رياضية وأستديوهات فنون القتال, أتقن الكاراتيه وحصل على حزام أسود فيه. وبالفعل, بعد إندلاع ثورة الإسلامية في إيران وإنضمام قاسم إليه عام 1979, بدأ الآخرون يرون فيه موهبة فطرية في القتال, وتعجب به المسؤولين لدرجة أنه بعد إكمال تدريبه الأساسي الذي طال لمدة شهر أصبح فوراً مدرباً لشبان آخرين الذين أنضموا الى الثورة في مدينة كرمان. ثم نقل بعده لعمل حارساً في مطار كرمان لمدة شهرين أو ثلاثة. وبعد أندلاع حرب الإيرانية – العراقية, أوكل سليماني بإمداد الجيش بالمياه في الحدود الجنوبية لمدة 14 يوم, إلا أنه لم يرجع من هناك إلا بعد انتهاء الحرب. تسنم قيادة سرية الاستطلاع ثم قيادة كتيبة 41 في لواء ثارالله في العشرينات من عمره, وقاد معارك مليئة بالمخاطر والمجازفات الذي تطلب من سليماني أستخدام فطنته وموهبته العسكرية والقيادية لأجل إنقاذ نفسه وجنوده من أوزار الحرب. أصيب بجروح بليغة في معركة ((طريق القدس)), إلا أنه خرج منها سالماً ومنتصراً, وأستطاع فرقته أن يأسر ثلاثة آلالاف جندي عراقي تقريباً في عملية ((فتح المبين)). يشهد أصدقاءه على أن سليماني كان شديد حرس على حياة جنوده, فهو كان يصافحهم شخصياً قبل المعركة ويطلب منهم الغفران لعدم تسنمه الشهادة, وكان سريع البكاء عند فقدهم وعند أستذكارهم. أطلق عليه لقب “لص الماعز” لإنه كان دائماً يرجع وفي يده ماعز بعد إنتهاء المعركة لتغذية جنوده. أغلب المعارك التي خاذها سليماني تمركزت في مقدمة جنوب حدود إيرانية – العراقية.
تميز سليماني بالشجاعة وعدم خوفه من الموت, وكان يؤمن دائماً بأن أفضل وسيلة للدفاع هو الهجوم, قاد في هذه المعارك عدة عمليات سرية وخطيرة كان من ممكن أن يُقتل فيها أو يأسر, حتى أن العراقيين أنبهروا بشجاعته وتعجبوا بقدراته العسكرية, وقد ذكر أسمه عدة مرات في الإذاعات العراقية. أعاد قاسم وفرقته عديد من المناطق الإيرانية التي كانت محتلة على يد قوات العراقية مما كسبه سمعة مقاتل وقيادي بارع.
بعد إنتهاء الحرب عام 1988, عاد سليماني إلى مدينة كرمان لمحاربة المخدرات فيها, التي كانت تأتي من أفغانستان والتي كانت تعبر منه إلى تركيا وأوروبا. في غضون ثلاث سنوات, نجح سليماني نجاحاً باهراً في القضاء على متاجرين بالمخدرات تماماً وقطع دابرهم من المدينة, وهذه أعطاه شهرةً أضافية في البلاد, وتسنم وسام الفتح من درجة البرونزي لأجله ولأجل بطولاته السابقة.
ثم أختفى عن أنظار العامة, حتى عام 1998, حين صار قائداً لفيلق القدس في الحرس الثوري, وكلف بمساعدة الشيعة خارج الإيران. برز عبقرية سليماني في قيادة الحروب بالوكالة (وهي حروبٌ يحاربه مجموعة معينة في دولته على حساب دولة معينة أو طائفة محددة), وظهر هذه الموهبة عندما هاجم مسلحي طالبان في أفغانستان مجموعة من الشيعة الفارسيين هناك وقاموا بقتلهم وأغتصابهم, ومن قتلى كان هناك تسع إيرانيين, منهم ثمان دوبلماسيين وواحد صحفي. طلب يحيى رحيم الصفوي (رئيس للحرس الثوري آنذاك) من الخميني أن يأذن له بحرب شاملة مع طالبان. أعترض سليماني على ذلك, وقام بتهدئة الأوضاع, وأقترح مساندة إيران للتحالف أفغاني شمالي المعارض لحركة الطالبان حتى لا يتدخل إيرانيين إلى دولة أخرى بالعلن. ساعدهم سليماني شخصياً في قيادة جنودهم ضد طالبان.
بدأ سليماني بتوجيه نظره إلى قضية أخرى, وهي قضية أحتلال إسرائيل للبنان. كان ارتباط إيران مع حزب الله قوياً ومعروفاً قبل مجيء سليماني, لكن قاسم أستطاع أن يكثف هذه ترابط بتمويلهم وتسليحهم وإرسال جنود إيرانيين إليهم, وتولى تدريبهم وتنظيمهم وقيادتهم شخصياً أيضاً وبشكل سري لمحاربة جنود إسرائيل, مما دفع إسرائيل إلى الإنسحاب من لبنان عام 2000. كان سليماني بعلاقة قريبة مع عماد مغنية (قائد لحزب الله آنذاك), حتى أنه ظهر بالصدفة المفاجئة معه عندما كان عماد متخفياً في عام 2008. رصد لقائهم موساد (أستخبارات إسرائيلية) عندما كانوا يتعقبون عماد لإغتياله, لكنهم أمتنعوا عن إطلاق العملية وذلك بسبب عدم إمتلاكهم رخصة للقضاء على قاسم سليماني الذي كان معه في اللقاء.
بعد أحداث 11 سبتمبر, رأى سليماني تحالفاً مع عدوٍ لم يكن بحسبان. من أجل تسريع القضاء على حركة طالبان في أفغانستان, تحالف سليماني ولفترة قصيرة مع الأمريكان. شارك فيه سليماني معلوماته الأستخباراتية عن حركة طالبان ونصائحه الإستراتيجية مع الأمريكيان, وبالمقابل أعطي الأمريكان أيضاً ما يعرفونه عن عسكرية طالبان ومواقع جنودهم وتحركاتهم. طال الأمريكيان في إستجلاب المعلومات عن طالبان وكانوا بطيئي التقدم في الميدان, زاد ذلك من غضب سليماني وجعله يفكر مرةً ثانية في الهدف من التحالف. وفي يوماً من الأيام في أحدى مقابلاته مع قادة أمريكان, نفذ صبره, وبدأ يصرخ عليهم ” أن لم تتوقفوا عن بناية حكومة وهمية في السماء وتبدأو بالقتال في الميدان, لن يتغير أي شيء. عندما تكونون جاهزين, تعلمون أين تجدوني “. أنتهى التحالف بعد أن وصف جورج بوش إيران في خطابه ب”محور الشر” عام 2002.
ساعد سليماني معارضين العراقيين الذين نهضوا ضد البعثيين في العراق في مرحلتهم الأخيرة. بالأخص شيعة الجنوب والأكراد, حيث أمدهم بالأسلحة والمال والجنود, وأخذ بتدريبهم وتقديم إرشادات عسكرية لهم حتى نهاية الحرب. وهنا بدأ سليماني بتوثيق علاقته مع العراق عامةً ومع الأكراد وقادة منظمات المقاومة (كمنظمة البدر) خاصةً.
أرتفع موجة الحظ للسليماني في عام 2003 لتعميق علاقته مع العراق. في هذ العام أظهر أمريكيا قوتها العسكرية في الشرق الأوسط وبدأ بإحتلال العراق. هذه القوة أقلقت دول الجوار ظناً منهم أنهم التاليين في قائمة الأحتلال. من باب الحذر, علم سليماني مباشرةً ما هي الخطوة التالية, مقاومة الأمريكيان في العراق. فساهم في تكوين جيش المهدي وكتائب حزب الله حينها, وسانده أيضاً بالسلاح وبالجنود. وهو كان وراء عدة عمليات عسكرية التي شنت في العراق ضد جنود الأمريكية. ولم يتوقف سليماني عن التحرش بهم يومياً (مثل ما يقول العراقيين “يومية دگ”) حتى عام 2011 عندما أنسحبت القوات من العراق, بل وأمتد أكثر منه. وفي عام 2008, ساعد قاسم سليماني بوقف إطلاق النار ما بين قوات العراقية والجيش المهدي. ويجدر ذكر بأن سليماني كان أيضاً حابكاً أساسياً في تشكيل الحكومة العراقية منذ عام 2003. وعندما ترأس الحكومة نوري المالكي عام 2010 (طبعاً بمباركة قاسم سليماني), أرسل الأمريكان برقية المباركة إلى العراق يهنئونهم على التشكيل, لكنهم كانوا يشتاطون غضباً في السر, لأنهم علموا أن سليماني أنتصر عليهم سياسياً في الأخير, وأنهم خارجين من العراق لا محالة, وقد خرجوا بالفعل في عام 2011 بضغط من سليماني على الحكومة العراقية.
ومن أجل تيسير خطوط النقل معدات العسكرية بين إيران وسوريا, قام قاسم سليماني بإنشاء علاقة ربط بين المالكي وبشار الأسد, وهم كانوا يكرهون بعضهم البعض من قبل. فبذلك, فتح سليماني طريقاً برياً وجوياً يمتد من إيران حتى لبنان بما يسمى بمحور المقاومة.
لم تكن علاقة سليماني مع حركة الحماس في فلسطين واضحة, ولكن كان من المعلوم أن إيران (وبإشراف سليماني) يمدهم بالأسلحة والتمويل من دون شروط مبينة سوى في أستعمالها ضد إسرائيل بإستمرار. أما القيادة فكان صعباً على سليماني السيطرة عليهم, فهم بالأول يصنفون مع المذهب السني, وهذا بالطبع لم يشكل عائقاً بالنسبة لسليماني بقدر ما شكل مشكلة عند أفراد الحركة حول تلقيهم أوامر من طرف الشيعي. إلا أنهم لم يعارضوا الإمدادات وقدموا العرفان والشكر لإيران علناً عليه, وحتى أن إسماعيل هنية زعيم حركة الحماس زار جنازة قاسم سليماني وقدم التعزية لشعب الإيران.
كان سليماني يستخدم تقنية بسيطة جداً عند المعاملة مع أشخاص مسؤولين من أجل “غرض معين”, وهي تقنية العقاب والثواب, فمن الصعب جداً رفض مطالب سليماني لسببين : المعاقبة عند الرفض, والمكافئة عند الموافقة. أما المعاقبة فلم يعتمد عليه سليماني كثيراً كونها اتفاقية زائلة, ولكنها كانت كافية للإزعاج. وأما المكافئة, فكانت مغرية جداً, حيث يمكنها أن تغير الأحوال لصالحك عند الموافقة, وتركزت هذه المكافآت أغلبها على موارد بشرية ومعدات عسكرية وبعض أحيان مناصب سياسية.
كل هذه جهود لم يذهب سدى, في 2011, تم ترقية سليماني إلى رتبة لواء لفيلق القدس في الحرس الثوري. وبدأ نشاطاته يتجه ناحية سوريا الذي أندلعت فيه حرب أهلية للتو. فكان بجانب بشار الأسد والجيش السوري, وقال بنفسه بأن ” سوريا هي خط الدفاع الأول للمقاومة”. قدم سليماني كل ما بيده من جنود عسكريين من أجل إنقاذ بشار الأسد ؛ فقد تواجد عدة عناصر من جنود سليماني متعددي الجنسية, منهم من إيران والعراق وافغانستان وباكستان ولبنان. وتواجد هو بنفسه في أرض المعركة, وتولى قيادة هذه الفرق بجانب الجيش السوري شخصياً.
في عام 2014, تمكن قوات داعش من سيطرة على مدن ومناطق واسعة في سوريا والعراق. بالرغم من أن الخبر جاء محزناً إليه في سوريا, حيث أصبح على جنوده مقاتلة قوة جديدة أخرى مما أدى إلى تعقيد المسألة أكثر عليه. إلا أنه جاء كفرصة في العراق للتعمق أكثر فيه..
كان وضع العراق صعباً آنذاك, فلم يقدر الجيش على توقيف أنتشار داعش, وكانت أبواب عاصمة بغداد في خطر دائم. علم الجميع أن هناك حاجة إلى قوة جديدة وواسعة فورياً, قوة تملك معدات عسكرية حديثة يمكنها مواجهة داعش ومواكبة معداتها, قوة تحتاج إلى دعم مادي دولي لكي تستمر في المقاتلة. لم تستجب امريكيا ودول اوروبية بسرعة على ذلك, بينما كانت ردة فعل إيران آنية, فمددوا الحشد الشعبي الذي تكون حديثاً بالسلاح وبالجنود وبالمعدات حديثة. تولى قاسم سليماني شخصياً القيادة وتقديم إرشادات إستراتيجية وتكتيكات العسكرية. وبات بعده منظمات الشيعة في العراق ذات طرفين : الطرف الأول هو القريب من قاسم سليماني, والثاني يطمح في أن يكون قريباً من سليماني, لقدرته على التمويل والتسليح والتنصيب.
قبل الشروع إلى العسكرية, كان يجب على سليماني أن يمارس نفوذه السياسية أولاً. بعد مساعدته في تشكيل الحشد الشعبي وضمه إلى جانب الجيش العراقي, سافر إلى أقليم كردستان الذي كان على علاقة جيدة معهم لكي يوحد ما بين قوات الكردية والقوات الشيعية لمحاربة داعش في الشمال. وافق الأقليم على ذلك, ومدهم سليماني أيضاً بالأموال والأسلحة والذخائر والمستشاريين, وجعل عملياتهم العسكرية متناسقاً ومتوافقاً مع الجيش والحشد. ثم أدرك سليماني بأن الفرد لا يتحول إلى عسكري في ليلة وضحاها, بل يحتاج إلى تدريب وخبرة يطول أشهر أن لم تكن سنوات. فقام بلم جميع فرقه الخبيرة السابقة التي تواجدت في العراق لمقاومة نظام صدام وقوات الامريكية تحت جناح الحشد الشعبي. هذه القوى توزعت في أماكن إستراتيجة في العراق التي كانت مهددة بالسقوط.
أمتحن سليماني بقدراته القيادية والعسكرية مجدداً هنا, وبرزت موهبته في عدة معارك التي تواجد فيهم شخصياً. ومن محافله العسكرية هو تواجده في ناحية أمرلي تابعة لمحافظة صلاح الدين لقيادة قواته على صد هجمات داعش ومحاولة منع سقوطها. ونجح نجاحاً ملفتاً للأنظار في ذلك, لما كان عليه الوضع في هذه المنطقة – حيث كانت ناحية أمرلي محاصراً من جميع الجهات تقريباً, فأنقطعت أمدادات العسكرية عنها, وكان من المتوقع عليها أن تسقط عاجلاً أم آجلاً بعد سقوط محافظة صلاح الدين. الشروع إلى ميدان القتال لم يكن نادراً على قاسم سليماني, فقد روي عنه أنه قال ” أن الرجال يتخيلون نوعاً من الجنة تجري من تحتها الأنهار, وفيها حور العين, ومناظر خلابة. لكن هناك نوعاً أخر من الجنة, إلا وهي أرض المعركة.”, وكذلك قال بأن ” ميدان المعركة هي الجنة التي خسرها البشرية “.
أستطاع سليماني أن يُرجع كثير من مناطق العراقية إلى يد سلطات العراقية وخصوصاً مناطق تكريت وديالى. وكذلك أستعان بخبرته ضباط العراقيين في حرب جلولاء وحرب فلوجة. أزدادت شعبيته وشهرته في الغرب والشرق بعد هذه الإنتصارات.
كان سليماني لا يلبس السترة المدرعة, ويتجول عادةً بملابسه المدنية العادية بدلاً من ملابس العسكرية. ووصفه الناس بأنه رجل متواضع, وساكت في معظم الأوقات, وإذا تكلم فيتكلم بصوت خافت, نادراً ما يرفع صوته على المقابل. كان يقوم في ساعة الرابعة فجراً, وينام في ساعة تاسعة والنصف ليلاً. ويقال بأنه لم يثق بأحد من القادة والجنود حوله, فجند أصدقاءه القدامى الذين كانوا معه في الجيش, وخصوصاً أشخاص من مدينة كرمان الذي نشأ فيه. ويقول أحد قادة العراقيين بأن ” سليماني علمنا أن الموت هو بداية الحياة, وليست نهايتها.”, ويقول مسؤول عراقي آخر ” لو كنت في غرفة مع عشر رجال, ودخل سليماني عليك, فلا يجلس معك, بل يجلس في الزاوية وحده صامتاً, لا يتكلم, ولا يعلق, فقط يجلس ويستمع.”
تميز سليماني بإمتلاكه شخصية جذابة ومتواضعة مما أدى إلى حب شعب الإيراني له بمختلف طوائفه. وكان يلقب ب”الحاج سليماني” لمكانته المتواضعة. عرض عليه الترشيح للأنتخابات عدة مرات نظراً لشعبيته وبطولاته, لكنه رفض قائلاً بأنه سوف يبقى دائماً جندي بسيط يخدم بلده وشعبه. ولم يُرى سليماني في العامة إلا في تشييع الجنازات وذكرى قتلى الإيرانيين والمقربين منه.
بالرغم من رؤية الإيرانيين له كمحارب بطل دافع عن وطنه حتى آخر رمق, إلا أنه لم يستقبل برحابة خارج إيران. بل أستقبل كعدو وكإرهابي في دول الغربية لمساندته نظام بشار الأسد في سوريا, وقتله لجنود الأمريكيين في العراق.
في 2015, بدأ سليماني باليأس من عسكرية جيوش السورية التي كانت تضعف أمام قوتين مضادتين (داعش والمعارضة). كانت الجيوش تنسحب بأستمرار من ساحات القتال, تاركاً فرق سليماني وحيدين في أراضي المعركة, تباطئت حركة الجيش في الرد والأسترداد, بل كانت المدن والقرى تسقط من يده أسرع مما كان يتوقع. رأى سليماني حلاً وحيداً لهذه المعضلة, إلا وهي إستدعاء قوة أخرى لتعزيز صف الأسد. هذه القوة كانت روسيا. بالرغم من كونه محظور من السفر خارج إيران, أستطاع سليماني الوصول إلى روسيا في بداية شهر 2015, وبقي هناك عدة أسابيع يناقش فيه أوضاع سوريا وخطته على إسترجاع الأراضي التي أخذها داعش والمعارضة. كانت خطته مغرية جداً لقادة الروسيين مما دفعهم على الموافقة للدخول إلى جانب بشار الأسد ومساندته جوياً. وبالفعل, في عام 2016, أسترجع سليماني عدة أراضي سورية التي كانت محتلة سابقاً, وكان يقود حينها شخصياً الفرقة الرابعة من الجيش السوري.
في مارس, 2015, ظهر نزاع آخر في الشرق الأوسط, هذه المرة في اليمن, الدولة الأبعد من إيران في شبه الجزيرة العربية. تطبيقياً وإستراتيجياً, لم يكن يمن يمثل أي شيء لإيران سوى كونه قريباً من السعودية. أما مبدئياً, فيرتبط الإيران مع اليمن بالمذهب الشيعي. تدخل سليماني لشؤون اليمن كان عن طريق الوكالة أيضاً, بدعم الحوثيين بالسلاح وبالمال, والتكفيل بتدريبهم وقيادتهم, أصبح تحت يد سليماني جيشاً أخر يقاتل له في دولة أخرى.
بالرجوع إلى العراق, وبالتحديد لعام 2017, بعد الخلاص من مسألة داعش, رجع سليماني مجدداً إلى ممارسة السياسية بدلاً من العسكرية. بينما يبقى بصمته خفياً ما إذا تدخل فعلاً بسياسة العراق ومدى تدخله وتأثيره عليه, لكن يوجد عدة تلميحات تؤشر على تدخله أكثر من حده المسموح. ظهر أبرز دور لنفوذه السياسي في العراق عندما فشل أستفتاء كردستاني وطالبت الحكومة بإسترجاع محافظة كركوك إلى السلطة الأتحادية, ساهم سليماني في تحويل سلطة كركوك بسلام من البيشمركة إلى القوات الأتحادية, ويشير دلائل على زيارة سليماني لكردستان عدة مرات قبل دخول الجيش إلى محافظة كركوك, لتذكير الكردستان من هو الأقوى ومن المسيطر في العراق, وما الذي سيحدث أن قرر الأقليم المقاومة.
في عام 2019, حصل قاسم سليماني على وسام ذوالفقار (نشان ذوالفقار), وهو أرفع وسام عسكري يمكن أن يحصل عليه الفرد في إيران. ويعتبر سليماني أول حاصل له بعد الثورة الإيرانية منذ عام 1979, وخامس المتوسمين منذ صدور الوسام عام 1856. هنا, أصبح واضحاً للخاصة وللعامة, للشرق وللغرب, بأن سليماني يمتلك موهوبةً في القيادة العسكرية, فهو لم يكن خريج الكليات أو المعاهد والأكاديميات العسكرية, بل كان كل إنجازاته من الفطرة ومن التجربة والتدرب. إن كنت تحبه أم تكرهه, وإن كنت حليفه أم عدوه, من الجدير عليك الأعتراف بعبقريته وبشجاعته وخبرته ونفوذه. يقول رجل من مخابرات الأمريكية السابقة “أن سليماني هو أقوى عسكري في الشرق الأوسط اليوم.”
أنتهى الخصام بين سليماني وامريكيا بضربة جوية أستهدفت موكبه في مطار بغداد في تاريخ 2020, كانون الثاني, 3, في الساعة الواحدة ليلاً, التي قضت على حياة قاسم وتسع آخرون معه. وكان سليماني في لقاء مرتقب مع عادل عبد المهدي رئيس جمهورية العراق. والغرض من اللقاء كان رد إيران على رسالة التي بعثها العراق بالنيابة عن دولة السعودية من أجل تخفيف التوتر بين الطرفين في المنطقة. قرار أمريكيا لأغتيال قاسم جاء على عدة مستويات شخصية وسياسية وعسكرية : كان هناك صراع قديم بين سليماني ووزير خاريجة الامريكية الحالية مايك بومبيو. بومبيو كان مديراً لوكالة استخبارات الامريكية سابقاً, وكان ينوي أغتيال قاسم منذ عام 2005. والعلاقة الشخصية التي ربطت سليماني وبومبيو كانت علاقة قهرية ومهينة لبومبيو, ويقال أن سليماني لم يأبه برسائل التحذيرية الذي أرسلته بومبيو إليه لوقف الهجمات على قواعد أمريكية العسكرية والأعتداء على الجنود موجودة في العراق, وهذا ما أدى حتماً إلى أزدياد التوتر بين الفردين. والسبب سياسي لأغتيال سليماني جاء من قبل ترامب وإنخفاض شعبيته بين أهله – كان يحتاج إلى سجل جيد حتى يزيد من نسبة قبول جماهير له, وقتل شخص مصنف في قائمة الإرهاب الدولية هو طبعاً يعتبر شيء إيجابي, وجميع الرؤساء قبله قضوا على أقل على فرد من القائمة (بوش أستهدف الزرقاوي, وأوباما أستهدف أسامة بن لادن). أما الأمر العسكري, فقد جاء كرد فعل بسبب أوضاع العراق المتردية وخروج الناس للمظاهرات وحرق السفارات والمقرات وكذلك التحرش على القواعد العسكرية الأمريكية.
ترك سليماني وراءه 4 أطفال (ولدان وبنتان), ووصية متواضعة لزوجته : ” لقد وضعت قبري في مرقد الشهداء في كرمان, محمود يعرف مكانه. أجعليه قبراً متواضعاً, مثل أصدقائي الشهداء, أكتبي فيه (الجندي قاسم سليماني), ولا تستخدمي عبارات مزخرفة. ”
بالرجوع إلى وراء, وإستحضار جميع علاقات سليماني وإرتباطاته مع الدول والفرق المتعددة, قد نتسائل حول ماهية آلية التي جعلت سليماني يرتبط مع عسكرية دول الأخرى. وللإجابة عن هذا التساؤل, نستذكر موقف سليماني وخطته في القضاء على حركة طالبان في افغانستان عندما هجموا على مدن وقرى الشيعية وقتلوا أهلها. لم يتدخل سليماني مباشرةً إلى أفغانستان, بل أوكل فرق وجنود شيعيين أفغانستانيين ومددهم بالأموال والأسلحة والتدريب لكي يقضوا بأنفسهم على العدو المشترك, مع تقديم إرشادات قيادية عسكرية لهم. ما جاء بعد هذا الموقف كان كله حروباً بالوكالة بالنسبة لسليماني. يجد سليماني أفراد يشتركون معه في المذهب وفي العدو, فيقوم بتسليحهم وتمويلهم وقيادتهم في الخفاء, فهو لقب ب”رجل الظل” لحركاته وعمليات التي كان مرتبطاً بها والتي كان جيوش من جنسيات أخرى يقومون بها. وكذلك لقب ب”أقوى شخصية عسكرية في الشرق الأوسط” لتمكنه من السيطرة والقيادة معارك عديد في دول الشرق الأوسط, فقد كان مسؤولاً عن العراق وسوريا ولبنان واليمن, وتقريباً جميع العمليات التي كانت تحصل في هذه الدول سواء سياسية أو عسكرية كانت تحت إشرافه. وأرتبط أسمه بعمليات عديدة التي حدثت في أنحاء العالم, ووصل يده حتى إلى دول لا علاقة له بإيران كتايلندا, والهند, ونيجيريا, وكينيا, ومصر.
ثانياً, ركب سليماني موجة الحظ, وأنتهز الفرص عندما أتيحت له, نرى مثلاً في العراق أنه أستطاع أن يعقد علاقته أكثر وأكثر مع مرور الأحوال والأحداث على العراق.
كان سليماني خبيراً في إخفاء آثاره لدرجة حتى أن البحث عن حياته سابقة ومنجزاته السابقة كان صعباً ومليئاً بالجدل (هناك جدل حتى حول مكان ولادته), حيث لا يعرف عنه سوى ما قاله بلسانه أو بلسان أحد أصدقاءه, ويمكن القول أن ربع المعلومات التي ذكرت في هذا المقال يمكن أن تكون مفبركاً.